القاتلوجيا: أيننا من "الكون نغم"؟! قراءة في كاريكاتور

"لطالما حثني جدي على العزف يوميًا، لتبقى الأنغام تسري في جسدي رواية "المدينة"، دين كونتز، ص10

في عام 2018، انتشر فيديو قصير لمجموعة من الفنانين الكويتيين، من بينهم الفنان حسن البلام، وهم يؤدون أغنية "ضناني الشوق" بأفواه محشوة بالقات، مصحوبة برقصات فانتازية، بل هستيرية. المقطع كان مُجسدًا للمقيل اليمني، وأبطاله من يطلق عليهم -للأسف- فنااااان.

تلك الحالة القاتلوجية اليمنية لملايين الناس من كل الأجناس والأعمار محشورة في المقايل، في كل ركن، في القصر والكهف، في المدرسة أو رئاسة الجمهورية، لطبيب أو شاقي، لفنان أو سمكري، لوزير أو متسول، لربة بيت أو بروفيسورة، لضابط وعقيد أو حارس، لمثقف أو أمي… الخ.

ترى وجوهًا شائهة بحركات صادمة، ما بعد الفوبيا، خصوصًا في الأعراس، يلزمك  قبل مشاهدتهم، أن تتسلح  بـ"قطر الحديد" لعلاج الفجعة، أو تلاوة آية "قل أعوذ برب الفلق"، أو قراءة تعاويذ شعبية للجدات، نعم هستيرية منفلتة لكائنات عابرة للفضاء كالتي نشاهدها في السينما، أو كائنات خارجة من بطون مرويات المحكيات الشعبية عن الجن، والمسوخ، أقلها الجرجوف والدجرة، وعدار الدار، والأدهى من كل ذلك أن تصور وتنشر هذه الحالات على مواقع التواصل الاجتماعي، كجزء من الهوية الإيمانية اليمنية "سجل أنا يمني، أنا موت بلا كفن".

أصاب الفنان البلام، عندما نقل الصورة لمجاميع من الفنانين اليمنيين الذين لا يتورعوا عن مسخ الأغاني والفن اليمني والعربي، لتشبه وجوههم و"بُجمهم"  "راجمات الصواريخ" و"كاتيوشا" كما يتباهون بوصفها.

في ذلك التوقيت "البجموي" الجامع لكل اليمنيين، خرجت النفس الجريحة التي لا تتقبل النقد، وبخاصة "علفته" المقدسة، أضحى النقد صرخات استكبارية هووية، إيمانية من حمية كيف تنتقد نبتة الآلهة: قوت اليمنيين، بل وأن يأتي النقد من الخارج، ما استدعى إطلاق الفزعة القبلية -كعادة الفرغة القاتلة لليمنيين- وتكاثرت جبهات الرد والصد والردع، بما فيه وزير الثقافة السابق، كاتبًا "إنها نكتة حمقاء أتت في غير وقتها... وتصب في تجريح الهوية اليمنية". وهنالك من قال إن هذا "مهين للشخصية اليمنية، تشويه صورة المجتمع اليمني، سخرية مثيرة للاشمئزاز، أساؤوا للفن اليمني، ونحن في حالة حرب"، "هذه عاداتنا وتقاليدنا، ومن قرح يقرح"، "أيش يشتونا نلعص لُبان مثل النسوان"... الخ تلك "المقارحة القاتلوجية، جعلت الفنان البلام يتقدم بشبه اعتذار.

وللأمانة، كان المقطع -وبشكل استحيائي- من أشد اللقطات الفنية الناقلة للواقع  القاتلوجي المُهلك لليمنيين، أما ما يوجد على الواقع فهو أعظم وأنكى، إنها "محارق جماعية".

قراءة الصورة -الكاريكاتير
أيننا من الحكمة الشهيرة للفيلسوف فيثاغورث، "الكون نغم"، أكان في السلم أو الحرب؟ سأتناول الموضوع، من خلال قراءة الكاريكاتير الشهير للفنان الرائع رشاد السامعي، في تصويره للمطرب اليمني.

بورتريه كاريكاتوري صادم، ساخر وناقد، عبرت عنه تشكلات الوجه بخطوطه والألوان والظلال، لم يسجل الفنان أي نص لغوي، بقدر ما جعل الصورة ناطقة بلسان الواقع القاتل-لوجي اليمني بكل حمولته الثقافية والاجتماعية.
نصًا بصريًا، معبرًا بكثافة عن الحالة العدمية لليمنيين، والفنان خصوصًا، بسخرية صادقة-مؤلمة، وإن كانت محمولة بالتشويه الأيقوني، لكنها جزء من الواقع اليمني.

خطاب المعنى:
الوجه يتكلم، وفي الحالة اليمنية لا يحمل سوى معنى عميق في ذاكرة التعابير الشعبية: "لطموه الجن"، مسخته صياد"، وجه مشاطل، صابره مكرفس/ مشقدف، مدقدق وو، وهذه العلامات التي تتكثف في الرسمة تحمل دلالة الاختلال في الجهاز العصبي، حيث ترى العيون ليست في مكانها، والأوداج منتفخة، والخطوط ثقلت واسودت، والأنف متضخم، والجبهة أصبحت متعرجات كخطوط التماس في جبهات الحرب، هيئته ممسوخة، فأول شيء يقع عليه بصرك هو الفم المفتوح، والبجمة المبتلعة للآلة الموسيقية (العود)، فقد ساوى السامعي بين المخزن الفنان، وبين أي كائن مبتلع يأكل الخشب والحديد والأوتار، كائن أبعد من أن يكون إنسانًا سويًا، ولو حدقت قليلًا في العينين، وهما من أهم ما تقرأه في الصورة، فكل عين ليست في مكانها البيولوجي، وتشيء بالتوهان والإغماءة، لقد اختفت/ غرقت لغة العيون، وبالمثل الحاجبان في غير مكانهما. إنها صورة بصرية تعبيرية عن اللاتوازن، التشوه، والبلادة كما عبر عنها ولد زايد.

هذه القراءة الأولية لسحنات الوجه القاتي بتأثير الكاثيين "Qathien" التخدير في المخدرة-المقيل.

أبدع الفنان بتلوين فضاء المخزن باللون الأخضر الكاسح الذي يرمز إلى الحياة والخصب، والنغم، غير أنه في الصورة  يرمز إلى الموت أفيونيًا، بصاقًا سامًا يلاك مع العود، مشوهًا لغة وروح "الكون نغم"، فلسفة فيثاغورث التي كانت مركزية في أفق الفلسفة الإنسانية، الفنان اليمني الذي يلعص العود لعصًا مفنيًا "الكون نغم"، ابتلعها كما يفترس سمك القرش أي شيء يقابله أمامه.

في الصورة، لم يبقَ سوى مفاتيح العود الناجية من الابتلاع الأخضر. لكنها وحدها بلا قيمة في المعنى الكوني للنغم والسلم الموسيقي، الأوتار هرست داخل الفم ورغوته، حتى إن الأيقونات الموسيقية فرت وتطايرت وغرقت في الأخضر، هي مقتولة داخل الفم وخارجه، إنها "بجمة ما ترد حي".

لقد ظهرت مجاميع شبابية رافدة لحالة الغليان الهستيري وعظمة القاتلوجيا، هذيانات انسطالية، فيسبوكية حامية، بشعارات: "عيد الغصن 17 سبتمبر"، عيد القات العالمي، والأتعس الهذياني جماعة "اعطني القات وغنّ"، التي عبرت عنها الصورة، إذ كيف تحيل أعظم قصيدة لجبران خليل جبران "اعطني الناي وغنِّ، فالغناء سر الوجود"، وترنمت به صوت الحياة السيدة فيروز، تختزل في مخيال مريض، مخدرة-محرقة انسطالية بامتياز.

والسخرية أن يجري التعريف بعيد الغصن على أنه "يهدف لمعالجة الصورة المشوهة عن القات في الخارج بدرجة رئيسية"، بل إن "النبتة القومية"، يجب أن تصدر إلى الخارج، وترفع اليمن اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا و… الخ؟!
هل يتذكر أحدكم ما قالته الفنانة عفاف شعيب، في ندوة "المسرح في اليمن"، 2005، بحسب صحيفة "الأيام": "لا يوجد خشبة مسرح حقيقية، والسبب يعود إلى تعاطي اليمنيين للقات"، وفي موضع آخر، تقول: "لن تتقدموا مادمتم تأكلون هذه الشجرة".

إن هذه الأعياد الفصامية عن العالم، في المجتمع الاستعراضي الميمنن، هي جزء من توحلنا ببصاق يغرقنا بجانب غرق الحروب والمجاعات، والمليشيات والجهل المتعاظم، استعراضنا لحالتنا عبر السوشيال ميديا بجنون العظمة، يختزلنا في بجمة القنبلة، لوجودنا الشبه آدمي في الألفية الثالثة في يمن البصاق الإيماني وحكمته اليمانية: "البحشمة الإلهية".

قطف خبر:
"تهامسوا، فالموسيقى أجمل من أصواتكم" (إشارة إلى التزام الصمت أثناء العزف، من رواية، فهرس، سنان أنطون).
وبحجر الله، لا تلعصوا أغاني فيروز في مقايلكم.