مجدلة..!

كان ضيفًا زائرًا عزيزًا على بلادنا، ذاك الذي أتانا من إحدى الدول الاشتراكية الصديقة، ومن أجله تحلت المدينة بأجمل وأبهى ما لديها، وتحركت كل أجهزة المدينة لاتخاذ ما يلزم، وكانت سيارتي القديمة الميني أوستن المتهالكة ضحية تلك الزيارة، كما كنت نتيجة غمزة ومزحة زائدة العيار من قبل أحد الأصدقاء الأعزاء المعروف بمقالبه المستطابة. وإليكم الحكاية من طق طق للسلام عليكم.

أيامها كنا دولة لها مكانة رفيعة يهابها كل من بنفسه مرض دولة إن قالت لها دوري تدور. عاصمتها الجميلة عدن مدينة بسيطة تختزن أسرار جمالها لدى كل من يعرف أسرار جمالها وخصائل شعرها وخبايا فتنتها وعبقرية مكانها بحرها قلعة صيرتها شموخ شمسانها وجمال الشواطئ فيها وما يعنيه ساحل أبين وساحل الجولد مور وخرطوم الفيل، وكل الجمال هناك، مطوقة بتموجات وآهات أبو الوادي، وكل ودائع السحر البديع الجميل البسيط في كذا موقع جميل وبسبط كبساطة الحياة خلال تلك الفترة التي كانت تعني لنا كل شيء جميل بجماله.. حلوه ومره وتناقضاته.. لكن جمال الحياة حلوها ومرها كان ملكًا للإنسان سيدًا يتأوه يضحك يتألم... يتنفس هواءً عليلًا، لكنه يجد في مجرى الحياة اليومية أمانًا وضمانًا يقيه شرور الزمان وتقلباته، بل قل أسوأ التوقعات. زماننا ذلك الذي كنا نحمله ونعيشه كان مازال نسيجًا سمعناه وأجدنا صناعته، وإن رافقته بعض الهفوات.

كانت -والحق يقال- ذكريات جميلة وجزءًا كبيرًا من جميله مازال باقيًا مخزونًا بكياننا نعود إليه كلما انقطعت عنا قطرة ماء أو انطفأ نور هنا أو هناك، أو هبت على روح المدينة وسكينتها قوارح مزعجات من ألوان شتى ما كان لها وجود أيامنا تلك.. وإذ تهب علينا كريح صرر حاليًا تكوينا وتقتل مشاعرنا وتنغص مجريات حياتنا القلقة، فيا غصة القلب قد تبدل وتغير عنوان حياتنا اليومية التي لم يعد يجدي معها أي معنى من معاني الاقتصاد أو علم المال والمحاسبات، فما كنا زمانًا نسميه راتبًا وكان ثقله وقيمته بمثقال ذهب يغطي ويفيض لكل أطايب الحياة لباسًا وقاتًا وغذاءً وفاكهة وأبًا، والذي منه، وكما كان جميلًا ممتعًا وأنت ترى شمسان شامخًا والبحر رقراقًا يغني صدفة التقينا على الساحل ولا في طري ولا عسكور يتمنطق وبجانبه ذاك الذي يلبس لباسًا كما يلبس أفغان جن الأرض.

مرت بخاطري تلك الصورة وأنا أغرق في ذكريات زمن جميل مضى بعد أن مررت ببقعة كانت تسمى سابقًا مجدلة بمنطقة خور مكسر.

تذكرتها جيدًا لأن لها في حياتي التي كانت تحوي كل المتناقضات جمالًا، متعة، صراعًا، قلقًا، فقرًا، تدرجًا وظيفيًا كان يخضع لمعايير صارمة إن شابتها شائبة فليست الأساس وتثار حولها الانتقادات وما يتوجب من إعادة تصحيح. أتذكر تلك الحادثة حين كنت ماأزال أسكن بشقتي بالشارع الرئيسي بشارع مدرم أو كما يسمى الشارع الرئيسي بالمعلا... هاتفني صديقي إلى مقر عملي، وكان كعادته يقهقه ضاحكًا بصوت عالٍ: الحق سيارتك... لقد أخذتها سيارة البلدية. وأضاف ضاحكًا: حين سألوني عن صاحبها أفدتهم بأن صاحب السيارة مسافر، وهو تاركها، ولا مانع من سحبها، قدها كندم... بسرعة وذهول قلت له: أيش تقول؟ وما لك تسوي كذا؟ حرام عليك، السيارة الأستن جوهرة السيارات، صحيح أن أبوابها من ألوان مختلفة وصوتها يعرفه القاصي والداني، يا شيخ حرام عليك...

لم يدعني أكمل، قال: الحق سيارتك بمجدلة قبل ما يحلحلها عمال البلدية.

وهوبيس اتجهت مسرعًا نحو مجدلة خور مكسر، ووجدت عمال البلدية يتكلمون باستغراب: والله التأيرات عاده سلم... والمكينة بخير..

وفجأة سمعوا صوتي مرتفعًا يخاطبهم: ما لكم يا جماعة! اتقوا الله هكذا وبكل بساطة تصادروا سيارتي لأنها ميني أستن ذات ألوان وعيون عوراء...! هذه فوضى وابتزاز وأنتم لا تحترموا كادر البلاد.

ردوا بصوت عنجهي: يا شيخ بطل ما لك مجنون تصيح... فين أوراق السيارة يا فصيح؟️!

طيب... فين حقكم المقدم؟

عاده كمان يتلاوك. معك ورق وإلا روح لك با نرجع نشلك مع السيارة!

هذه الأوراق وهذا الليسن.

هيا نزلوا السيارة، وعادكم كمان تدهفوا معي قليل إن شاء الله ما تكونوا بدلتوا البيتري حق السيارة.

يا شيخ سكهلك شل سيارتك وامشي قد اتصل بنا مدير البلدية وقال لنا كل التفاصيل وعرفنا من أنت. نحنا قد عرفنا أن سيارتك كندم، ونحن نجهز المدينة لاستقبال ضيف عزيز على بلادنا ومدينتنا.

طيب ما لاقيتوا ضحية إلا سيارتي الغلبانة! الله يسامحكم.

بس شوف منو صاحبك اللي ودف بك وبسيارتك وهبا لنا معلومات غلط... راجعه قله مش كذا الصفاط.

الله يسامحه أنا أعرفه يحب المقالب وبيننا حساب طويل نحن إخوة وأصدقاء.

المهم شليت سيارتي، وحين عدت للمنزل وجدت جمهرة في الاستقبال، وعلى رأسهم صديقي العزيز، ولانزال صديقين إلى اليوم، نتذكر تلك الحادثة التي حدثت لسيارتي بداية السبعينيات التي لانزال نحنّ لها كثيرًا... لكن الأيام الأجمل تبقى مجرد ذكريات جميلة، لكنها للأسف لا تعود ولن تعود.

دارت بمخيلتي عجلة الزمن تتجول وتطوف بي أزمانًا وأزمانًا مراحل عدة تقطعتها وتتقطعها الحسرات والتنهدات والقلب والعقل والفؤاد بحسرة يرددان: تلك أيام خلت... ترفرف معها أحلام عراض تحلق في سماء المدينة تبحث عن بدائل الأزمنة الأردأ التي نعيش... وهذا هو مربط الفرس الذي منه ننطلق بعقل بحثًا عن مخرج مما نعاني، سنظل نحلم بالأجمل، لأن من لا يحلم تلتهمه الثعابين كما يقولون... نعم ستتواصل أحلامنا عملًا شاقًا وفكرًا وقادًا وبحثًا عن الأفضل.. دعنا نحلم، والأحلام حق مشروع، فقط تتطلب جهودًا وعملًا صادقًا.. أحلام لا تظل مجرد أمنيات معلقة في الهواء، وتمشي باكية في ملاجئ للعجزة المقعدين والأيتام الباحثين عن شفقة... لكن عبر عمل منظم دقيق من قبل الكل.

لا بأس، قلت بيني وبين نفسي، وأنا أردد وتلك الأيام نداولها بين الناس... لكن هاجسًا وطارقًا ظل يهامسني بالقول: ولكن كيف ترى ذلك؟ قلت لا ينقص الإنسان عقلًا راجحًا تبنى عليه الآمال.

سرحت قليلًا، أطلقت لحواسي حرية التجوال والأقوال، ووجدتني أردد بقناعة تامة...

وجه المقارنة بين مجدلة الأمس ومجدلة اليوم، شاسع وبعيد ولا يجمع بينهما جامع.

رددت بيني وبين نفسي همسًا كي لا يسمعني أحد: لا وجه بتاتًا للمقارنة.. مجدلة الأمس كانت فعلًا لتوالف الأشياء الفاقدة التالفة التي تقادمت حقًا وانتهى أجلها.. فاقدة قيمتها ومنافعها، بل قل وقاية للمجتمع من أضرارها ومضارها، ويتم الإتلاف وفقًا لضوابط ونظام ومراقبة.

أما مجدلة اليوم فمهزلة وكوميديا من طراز جديد.. فهلا وحيا بها لأصحاب الشأن... هي من لؤلؤ وزبرجد ومرجان تقتات من ذهب السلطان وبساتينه العامرات التي تغدق على من يرمى بهم إلى حياضها ليعيشوا بها نعيمًا رغدًا رقراقًا، تفتح أمامهم الأبواب، ويتاح لهم ما يشاؤون من غالي أنواع وماركات السيارات الفارهات ذوات الأرداف وسواها من تلك الأنواع التي تطوف أرجاء المدينة، تزعجها وتقلق راحتها، وعلى متنها رتل من وجوه شاء لهم الزمان أن يرمى بهم إلى مجدلة، هي مجدلة عصر فريد طراز جديد... قل عنه ما تشاء، إلا أنه يظل والفساد أحبابًا وإخوة وعيال خالة وصهور... أقول لكم -والحق يقال- إنها فعلًا مجدلة من طراز جديد إن رموك فيها يا بختك، فقد نالك الثواب وحزت مكانًا عليًا لم تكن تحلم به، مكانًا درجته الوظيفية تبدأ من درجة وزير عامل وما فوق متوجًا بضفائر شعر ذهبية ومتفرعاتها وهلم جرا وأنت ومن حباهم الحظ طالع طالع كالمنشار، ويا بخت من نفع واستنفع!

وحكمتك يا زمان تبدلت فيك العناوين والمضامين، ولا عزاء لمن فاتهم القطار كما قال ذلك صاحب القول الشهير.