بين التعويم والتخريب.. نقطة نظام!

بين أن تترك قاربك في بحر هائج مهدد بالمزيد من الرياح والعواصف والأمواج العاتية قد تصيبه بمقتل، ودونما اتخاذ ما يلزم من إجراءات واحتياطات لازمة لا بد منها كشرط قد يكون ضروريًا، وليس كافيًا لفترة يقي المركب من توابع العواصف.

بين هذا وذاك يكمن الفرق بين الدعوة التي تطلق على عواهنها للمضي قدمًا بسياسات التعويم المنطلق في سوق مضطرب سعيًا لتحقيق هدف سامٍ يتمثل بكبح جماح مفاعيل العجز وقصور في أداء الأسواق، لتحتل مظاهر مضاربات السوق الموازية تأثيرها التصاعدي السالب دون أن يترافق معها ويلازمها جملة من السياسات والضوابط المالية والتنظيمية والتحفيزية التي تعمل على ضبط الإيقاع داخل السوق المضطرب، ووفق ضوابط وسياسات مالية وتنظيمية ذات طابع إداري لا بيروقراطي يواجه ترهلًا وبيروقراطية متجذرة وسلسلة قديمة من قوانين وأنظمة باتت تتطلب تحديثًا يواكب المتغيرات داخليًا وخارجيًا، وفق رؤية مدروسة تم التوافق عليها مؤسسيًا تنتج آثارًا تحمي المصالح العامة والخاصة دونما تعسف وابتزاز.

هذا جانب، من جانب آخر إن كانت نية الجهات المقرضة دوليًا (أقصد تحديدًا صندوق النقد الدولي أولًا وسواه على التتابع) عند الاستعانة بهم كممول ومقرض تلجأ إليه الدول -مصر مثالًا- لمساعدتها على سد الفجوة التمويلية التي يتطلبها السوق ويتطلبها ظرفها الاقتصادي، هنا قد يبدأ الصندوق مفسرًا ذلك بأنه يحمي مصالحه، إذ هو ليس بجمعية خيرية، لكنه مؤسسة ترعى مصالح وأموال الأعضاء بالصندوق، ولكن ليس كل ما يقال يظهر ما بجوهر سياسات الصندوق من وخزات لها مآربها السياسية، إن كانت النظرة للدولة المفترضة مشوبة بنوع من التحيز بمعناه السياسي، وهنا يلعب الصندوق، وعبر وصفاته الجاهزة، بمخالبه عبر الوصفة العلاجية التي يشتهر بها:

- تعويم سعر العملة نقطة الانطلاق وصولًا -كما يقول لتوحيد- سعر الصرف للعملة.

- مكافحة العجز في الميزانية عبر رفع الدعم وإعادة الهيكلة.

- تخلي الدولة عن قيادتها لدفة الاقتصاد عبر السماح للقطاع الخاص الوطني والأجنبي ليلعب دور الممول الموفر لما تعجز الدولة عن توفيره عبر التمويلات التي باتت الدولة عاجزة عن توفيرها، وبالتالي باتت مطالبة بإفساح المجال لاجتذاب المزيد من الاستثمارات المحلية (القطاع الخاص) أو استدعاء الاستثمار الأجنبي عبر جملة من تشريعات والسياسات الجاذبة، إلى جانب خلق بيئة تتيح لقوى مالية استثمارية أجنبية تسهم عبر استثمارات جديدة على مواجهة الشحة بموارد النقد الأجنبي التي يعانيها اقتصاد وسوق البلاد، بخاصة بعملة الدولار، الذي تتشكل حوله مافيات مضاربات قاتلة، تؤدي لتشوهات بأسواق الصرف وإحداث المزيد من الإرباكات في أسواق التداول، معبرًا عنه بالانخفاض المتتالي لسعر العملة الوطنية، مع وجود سعرين البون يتسع بين السعر الرسمي وسعر سوق المضاربات.

من هنا تأتي خطورة الانجرار الفوري لقبول إلحاح الصندوق للذهاب لهذا العلاج بهذا الشكل، أي توحيد سعر العملة وفق معطيات المضاربات كما حددت قيمته ومعالمه قوى المضاربات، الأمر بالتأكيد يتطلب برهة من الزمن، كما يتطلب المزيد من الضوابط طابعها سياسي اقتصادي قانوني تشريعي، مع تهيئة البيئة والمناخ الاستثماريين بعيدًا عن الاستعجال والعشوائية، ولكن دونما تباطؤ وبيروقراطية طاردة، حيث الدولة ملزمة في مرحلة التحول بأن تظل متواجدة بفاعلية خادمة لمتطلبات إعادة التوازن لمكامن الخلل في أوجه العجز والشلل المتمثل بكيفية مواجهة العجز بكل من ميزان المدفوعات والميزان التجاري وفقًا لإرادة فاعلة تغادر الدولة من خلالها مكامن ضعف دورها التاريخي إلى رحاب مرحلة تتطلب فهمًا ووعيًا ومشاركة حقيقية لعناصر فاعلة جرى إما إهمالها عمدًا أو جراء مماحكات سياسية أو تبعًا لقصور في متطلبات التغير والتغيير في ظروف دولية باتت تتطلب ذلك.

هذه القراءة كثيرًا ما تنطبق على ما تواجهه جمهورية مصر العربية من تحديات داخلية وخارجية، وهي تمتلك الإرادة والإمكانات للخروج من نفق أزمتها التي استفحلت مؤخرًا، حيث أدت الظروف المحيطة وبقايا قراءات ومصالح لم ترتقِ لفهم متطلبات كيان يتزايد بشريًا يحاصر سياسيًا بقصد الإجهاز عليه، لكن كما اتضح من وجود إرادة صلبة استوعبت طبيعة التحدي، ومن ثم دخلت قيادتها السياسية ضمن رهانات قادرة عبرها على مواجهة التحديات.

من هنا نؤكد القول بأن امتلاك الإرادة الحرة والقدرة على امتلاك دفة قيادة الأمور عبر نهج وطني مستقل، هي السبيل الوحيد والقوي، ولا بأس معه من الاستعانة بمن كان لمواجهة العواصف العاتية طالما كانت الضمانات والإرادة الوطنية المستقلة حاضرة وقوية. إنها مرحلة من أخطر مراحل إعادة تشكل أممية رأس المال التي نعيشها ونمر بها ويتربع على عرشها بالدرجة الأولى كما يقول التونسي الحبيب الجنحاني، في كتابه المسمى "العولمة من منظور عربي": الأمية الرأسمالية التي يتربع على عرشها مجموعة من الصبيان كما اعترف بذلك مدير صندوق النقد الدولي، إبان أزمة المكسيك المالية، هم قوة مالية، بل أصبحوا قوة سياسية قادرة على إسقاط أنظمة، بل باتوا من يؤثرون على اتجاهات الاستثمارات الدولية، بل يملكون القدرات والوسائل لتتدهور أسعار العملات، وما جرى مؤخرًا بمصر خير دليل.

من هنا يأتي خطر الانزلاق وراء طروحات الصندوق المستعجل، حيث تتطلب المصلحة الوطنية التدرج عند وجود ضرورة التعامل مع المعالجات التي يراها الصندوق، والتي تتطلب ضرورة وجود دور فعال ومؤثر للبنك المركزي في مراقبة الأسواق منعًا لتصاعد عمليات المضاربة بأسواق العملة، وكبح جماحها، إلى جانب دوره في مكافحة التأثير السالب للتضخم، وضمن سياسات نقدية ومالية تحافظ قدر الإمكان على ما تبقى من قوة شرائية. بالتأكيد ذلك ليس كافيًا، إذ المطلوب أن يصاحب مثل هذه السياسة ثلاثة ملامح أساسية رئيسية أخرى لا بد منها، وهي:

- ثقافة مجتمعية يغادر المجتمع معها النظرة السطحية للتحديات.

- تطوير البيئة التنظيمية والتشريعية وتطوير الأداء.

- خلق مناخات استثمارية جاذبة فعلًا، وفي قطاعات الإنتاج المادي الصناعي والزراعي للإسهام في علاج ما يكتنف كل من ميزاني المدفوعات والتجاري من عوار تحولا نحو الإحلال الكلي أو الجزئي لاحتياجات الاستثمار والسوق.

- الابتعاد قدر الإمكان عن مفاعيل ومخاطر تدفق الأموال الساخنة عبر تطوير أنشطة البورصة، وضمان عدم خضوعها لمخاطر إيقاعات ومفاجآت الأموال الساخنة.

نود في نهاية مقالنا هذا الإشارة إلى بعض الأمور الهامة التي ينبغي الأخذ بها والاحتياط عند أخذها، ومن ذلك:

- أن اللجوء للسياسة النقدية من قبل البنك المركزي ضرورة، ولكنها أيضًا ترتبط بمنظور سياسي واقتصادي متكامل، وضمن حالة يؤمنها استقرار أمني وسياسي.

- لا تلكؤ في الذهاب لعمليات الإصلاحات السياسية والاقتصادية والقانونية.

في بلادنا تظل ثلاثة عناوين تفتقد عناصر الوجود الفاعل والمؤثر والتماسك القادر على توليد وخلق عناصر الثقة بالاقتصاد وإمكاناته الواعدة وبالأسواق وقدرتها على جذب المزيد من الاستثمارات، أقصد ضرورة أن يتوافر لدينا:

- بنك مركزي غير متشظٍّ وغير منقسم وعملة منهارة وسوق منقسم.

- لدينا حكومة مهاجرة متنازع عليها وحولها لا بديل عن تواجدها الفاعل المنسجم بالداخل.

- انتهاء وجود أكثر من مركز للقرار السيادي وعدم عرقلة تنفيذه.

- لدينا دولة جرت مصادرة لها ولقراراتها وتأثيرها على الأرض.

وحتى يتسنى للاقتصاد أن ينهض، لن ينهض دون وجود فاعل للدولة وتأثيرها والحكومة كمنظم وناظم، وضرورة وجوده، والبنك المركزي، وضرورة قيامه بتأدية مهامه التي تأثرت بالمطلق جراء تشرذمه وانقسامه، وما يعتمل في الأسواق من مظاهر تضعف دوره.

نأمل خيرًا لبلدنا العزيز، كما نأمل خيرًا لمصرنا العزيزة التي تدرك لا شك أين مربط الفرس، وتدرك كيفية مواجهة التحديات الجمة التي تحاصرها مع سبق الإصرار والترصد، ناهيك عما تنشده مصر من آمال لصناعة مستقبل آخر ننشده لها ولبلادنا التي نبحث عنها وقد حان وقت وجودها.