النزاع على المياه في حوض النيل وابعاده الاستراتيجية

استخلصت من نتائج قراءتي في النزاع على المياه بين دول حوض النيل (العشر): دولتا المصب (مصر وجمهورية السودان)، ودول المنبع (إثيوبيا، أوغندا، الكونغو الديمقراطية، بروندي، رواندا، تنزانيا، وكينيا)، أنه كلما لاحت بارقة أمل للحل، تعقدت الأمور من جديد، لكننا نبدي تفاؤلنا ونقول إنه من المأمول أن تتوصل دول المنابع ودولتا المصب إلى حلول للخلافات بشأن المياه، كي يتم الاستقرار، ويعم السلام في المنطقة، وبخاصة الدول الثلاث (إثيوبيا كدولة منبع رئيسة من جهة، ودولتا المصب مصر وجمهورية السودان من جهة أخرى) وفقًا لاتفاق المبادئ الموقع بين رؤساء الدول الثلاث، 23 مارس 2015م، في الخرطوم، والمتضمن التعاون والتنسيق بين الدول الثلاث في شتى المجالات التنموية... الخ.
الجدير بالذكر، أن ما نشهده من خلاف يعود أساسًا إلى توقيع ست دول من منابع النيل (إثيوبيا، أوغندا، كينيا، تنزانيا، رواندا، وبروندي) على الاتفاق الإطاري (الوثيقة القانونية) لمبادرة دول حوض النيل للتعاون، التي انطلقت عام 1999م، تحت إشراف مجلس وزراء الموارد المائية لدول وادي النيل. وتحفظت دولتا المصب على هذا التوقيع، وبخاصة مصر التي كانت لها ملاحظات حول المادة 14 من الاتفاق الإطاري، التي تنص على "الأمن المائي من خلال الاستخدام المنصف"، حيث تطالب بحصتها الكاملة من المياه، ومعارضة إنشاء أي مشروع على مجرى النهر، كما أنها متمسكة بألا يتم الإشراف والرقابة المستمرة على تدفق المياه من المنابع حتى المصب إلا بموافقتها.. ومنذُ عام 2008م والحوار على مشكلة التوقيع ظل قائمًا في الاجتماعات بين الجانبين حتى 14 مايو 2010م، حيث أقدمت خمس دول في المنابع على التوقيع في مدينة عنتيبي (أوغندا)، ثم تلى ذلك توقيع بروندي (سادس دولة)، وبالتالي أصبحت الاتفاقية سارية التنفيذ بأغلبية دول حوض النيل، بعد التصديق عليها في مجالسها النيابية، خصوصًا إذا ما أخذنا بالاعتبار أن الكونغو الديمقراطية مقدمة أيضًا على التوقيع،، وفرضية توقيع جمهورية جنوب السودان التي انضمت مؤخرًا إلى دول حوض النيل بعد الإعلان الرسمي عن ميلادها في التاسع من يوليو 2011م.. ولا يوجد إجماع بين المسؤولين هناك حول مسألة المياه، إلا أن ذلك لا يمنع مسؤولين من قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، من التصريح بأن "المياه في المستقبل ستكون قضية كبيرة". الأمر الذي يثير تساؤل خبراء مصريين حول موقف جمهورية جنوب السودان الفعلي. ومن الملاحظ، أن انضمام دولة جمهورية السودان كدولة (عاشرة) إلى دول حوض النيل (التسع)، يشكل بحد ذاته إضافة مهمة لدول الحوض من منطلق موقعها الاستراتيجي بين دول المنابع ودولتي المصب، كمجرى مائي بامتياز، ناهيك عن هطول الأمطار الغزيرة على أراضيها، إلا أنها تفتقر إلى أبسط مقومات البني الأساسية للتنمية التي تعتمد على المياه رغم مواردها المائية الغزيرة، مثل مشاريع: الطاقة والري والمياه الصالحة للشرب... الخ. تلك المسائل المذكورة تنبئ بحدوث خلافات لا حصر لها في حال عدم معالجتها بأقصى فرصة ممكنة.
وتردد في أروقة الاجتماعات من بعض مسؤولي دول المنابع، أنه لا يمكن انتظار دولتي المصب طويلًا حتى تظل المشكلة قائمة، وتأكيدهم أن الاتفاق الإطاري لمبادرة دول حوض النيل، يوفر إطارًا للتعاون لفائدة جميع دول حوض النيل.

الجدير بالذكر، أن ثمة حلولًا عديدة لمسألة المياه بين طرفي الأزمة في حال خلصت النوايا، وتعززت الثقة، وساد التعاون المتبادل في جميع المجالات بين دول حوض النيل، وهناك ما يغني عن التوترات في قضية المياه عمومًا إذا ما تم التعاون في مسألة استغلال المياه المهدرة في البخر جراء ارتفاع الحرارة الشديدة في حوض النيل، ناهيك عن فقدان كميات كبيرة من المياه في مستنقعات جنوب السودان.

وتقدر كميات المياه المهدرة أكثر من نصف إجمالي إيراد المياه عند "أسوان"، بما يقارب 32 مليار متر مكعب.. وذلك كفيل بحل قضية المياه في دول حوض النيل.. ولن يتأتى ذلك الحل إلا باتفاق جميع دول الحوض بتقديم طلب إلى الدول والمنظمات المانحة (الشركاء في التنمية)، وهي قادرة على توفير الاعتمادات المطلوبة لإقامة استراتيجية بحفظ المياه وغيرها لمنفعة جميع الدول المعنية.. ويفضل أن تكون المبادرة من دولتي المصب، بالذات مصر التي تعتمد اعتمادًا شبه كلي أو كاملًا على مياه النيل.

وعلى صعيد آخر، هناك إمكانية لحل آخر يؤسس على "اتفاق" تشارك فيه جميع دول الحوض، وذلك بتفويض منظمة أو لجنة فنية دولية متخصصة في إدارة مياه النهر الدولي، سبق أن عملت في مناطق مختلفة، وفي أوضاع مماثلة أو شبه مماثلة لدول الحوض (العشر)، وتمكنت من إيجاد حلول مناسبة لقضايا المياه، تضمنت حقوق كل دولة من دول النهر الدولي على قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، بنيت على دراسات وفقًا لقواعد القانون الدولي، وتشمل النقاط الآتية:
1- طبوغرافية الحوض، والظروف المناخية المحيطة به.
2- حجم تصريف المياه داخل كل دولة من دول الحوض.
3- عدد واحتياجات السكان من المياه.
4- مراعاة الحقوق التاريخية المكتسبة من إيراد المياه، وأيضًا حقوق الدول المتشاطئة في النهر الدولي وغير المستفيدة من المياه السطحية التي تمر عبر أراضيها.
5- تقدير كميات الأمطار في كل دولة ومدى احتياجها من المشاريع (سدود -خزانات) بتخزين الفاقد من مياه الأمطار، وكذا مقترح إقامة مشاريع مدروسة على مجرى النهر الدولي بالتعاون والتنسيق بين جميع دول المنابع والمصب، على ألا يؤثر على الدول المنتفعة، التي تقل فيها الأمطار عمومًا، وتعتمد على النهر اعتمادًا كليًا.
6- تقديم مقترحات لإنشاء مشاريع استراتيجية مشتركة لاستغلال الفواقد المائية الهائلة في المستنقعات، وهذه حالة فريدة تنطبق على حوض النيل، وذلك بالتعاون والتنسيق بين جميع دول الحوض وشركاء التنمية (الدول المانحة والمنظمات والمؤسسات التمويلية) لتوفير المعتمدات اللازمة لتبني وتنفيذ تلك المشروعات لفائدة الجميع.
7- ضمان حقوق الدول المتشاطئة في النهر سواءً أكان صالحًا للملاحة أم لم يكن.

حقيقة، إن قضية المياه أصبحت في متناول دوائر صنع القرار، بخاصة بعد توقيع ومصادقة غالبية دول حوض النيل على "الاتفاق الإطاري" لمبادرة حوض النيل للتعاون، وأيضًا بعد أن أقدمت إثيوبيا على تنفيذ المشروع الاستراتيجي "سد النهضة" على مجرى "النيل الأزرق"، في 2011م، وقد أصبح بناء المشروع شبه مكتمل بنسبة 90%، في ديسمبر 2023م، وتعبئته حتى نهاية صيف 2023 بـ31 مليار متر مكعب، وهي المرة الرابعة دون حضور دولتي المصب للإشراف في عملية ملء السد، لعدم استكمال الاتفاق بخصوص قواعد عملية "ملء وتشغيل" السد في الاجتماع المنعقد بين الدول الثلاث في 19 ديسمبر 2023م، في أديس أبابا، وتحمل مصر الجانب الإثيوبي المسؤولية على التلكؤ في استكمال الاتفاق.
وعليه، تعقد الآمال بسعي الدوائر المعنية في تلك البلدان بجهد حثيث للتوصل إلى تدابير وقائية ضامنة لحقوق كل الأطراف من المياه من خلال حوار بناء يقوم على الوضوح والشفافية، وبناء الثقة، وتعزيز العلاقات الثنائية، والتعاون في المجالات المختلفة لفائدة جميع دول حوض النيل.

وفي السياق نفسه، أود القول، إنه مهما تكن الخلافات، فإن الحرب على المياه لا تخدم أية دولة بقدر ما تؤدي إلى مشاكل لا تحمد عقباها في المنطقة، كما تفتح المجال واسعًا للتدخلات الأجنبية بذريعة حماية المصالح، ومكافحة الإرهاب، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين إذا ما أخذنا بعين الاعتبار قرب المنطقة من منابع النفط والغاز، والممرات المائية الاستراتيجية لعبور ناقلات النفط والتجارة العالمية.

قمين بالذكر، أن التواجد العسكري الأجنبي واستعراضه للقوة قد أصبح أمرًا واقعًا كما نشهده يوميًا في اليمن والمنطقة الممتدة من البحر الأبيض المتوسط مرورًا بالبحر الأحمر وخليج عدن، والسواحل الإفريقية المطلة على المحيط الهندي، وبحر العرب حتى الخليج، دون تفويض من مجلس الأمن الدولي، إنما هو في واقع الأمر يعتبر إسنادًا وحماية للكيان الإسرائيلي الصهيوني الغاصب للأراضي الفلسطينية في حربه الغاشمة على الفلسطينيين، والإمعان في تهجيرهم القسري، وبخاصة من "قطاع غزة" الجريحة والضفة الغربية والقدس الشريف، مستخدمًا كل وسائل العنف الوحشي والإبادة الجماعية للسكان، وبخاصة في القطاع، وبصورة لم يشهد لها التاريخ الإنساني مثيلًا.
وعلى صعيد آخر، إن اليمن تتابع تكة بتكة كل ما يجري من نزاعات بين دول حوض النيل، خصوصًا بين إثيوبيا كدولة منبع رئيسة في الهضبة الشرقية من جهة، ومصر وجمهورية السودان كدولتي مصب من جهة أخرى، ومدى خطورة تفاقم أي نزاع بينها على بلادنا، انطلاقًا من التأثير والتأثر بحكم "الجغرافيا، والتاريخ، والعلاقات الاجتماعية والثقافية، والقضايا ذات الاهتمام المشترك" التي تربط اليمن بشكل خاص مع هذه الدول منذ قديم الأزمان.

ومن هذا المنطلق، استطعت أن أقدم حلولًا ناجعة لتسوية النزاع لمنفعة جميع دول حوض النيل، وبخاصة دولتي المصب مصر والسودان اللتين تفتقران للمياه، ووسائل معالجة الخلافات بين دول حوض نهر دولي، بما يتفق مع قواعد القانون الدولي للمياه، ومراعاة الاتفاقات الموقعة في ما بينها، وتعزيز العلاقات الثنائية والتعاون المشترك في جميع المجالات بما يخدم التنمية والمصالح المشتركة وترقيتها إلى مستوى أفضل.

صفوة القول، إن قراءتي لم تأتِ من فراغ، وإنما لمسألة مهمة تتعلق بتفاقم أزمة المياه بين دول حوض نهر النيل، مما يؤثر سلبًا على المنطقة العربية وبلدان شرق إفريقيا، ويتيح فرصة للتدخلات الأجنبية في شؤون المنطقة، وتكريس تواجد الأساطيل والبوارج الحربية الأجنبية التي أتت إلى المنطقة لتنفيذ خارطة الشرق الأوسط الجديد ومشروع القرن.