الحديدة وجزيرة الأصداف

بائع اسماك في مدينة الحديدة ( النداء)
بائع اسماك في مدينة الحديدة ( النداء)

هربًا من برد شتاء صنعاء القارس، طمعًا في دفء الحديدة، انطلقنا عبر طريقها الشهير، فاستقبلتنا جبال "بني مطر" و"الحيمة" بطقسها البارد، حينها أغلقنا نوافذ السيارة جيدًا منعًا لتسرب رذاذ الهواء البارد، حتى وصلنا إلى "حراز"، وهي إحدى مديريات محافظة صنعاء، هناك توقفنا للاستراحة في مدينة "مناخة"، كانت أجسادنا لاتزال ترتعش بسبب برودة الجو رغم أننا كنا في وقت الظهر.

ساحل الكثيب في مدينة الحديدة (النداء)
ساحل الكثيب في مدينة الحديدة (النداء)

نزلنا وديانًا لظننا أنها ستكون أكثر دفئًا، ولكننا ظللنا نشعر بالبرد يخترق أجسادنا رغم أننا داخل السيارة، ولم نشعر بالدفء إلا حين وصلنا إلى "خميس بني سعد".. هناك شرعنا في فتح النوافذ لنسمح بمرور الهواء الدافئ من خلالها.

وادي سردد

وصلنا إلى وادي "سردد"، وهو وادٍ يأتي من "الأهجر" غرب صنعاء، ومن "ضلاع كوكبان" وشمال غرب "جبل النبي شعيب" و"ملحان"، ويجتمع في "خميس بني سعد"، ويمر هناك في مضيق وادٍ كبير دائم الجريان، ولكنه يضيع تحت الرمال، ويسقي مدن "المهجم"، ويصب في البحر الأحمر جنوب مدينة الزيدية في محافظة الحديدة، ويشتهر الوادي ببساتينه الغناء، ومزارع الموز والمانجو والجوافة التي تتخلل بعضها كأنها رقعة شطرنج.
اخترنا جانبًا من الوادي، وهناك أنزلنا عدة طبخ الأكل التي كانت كثيرة وكأننا ذاهبون لنطبخ في عرس، على الرغم من أن عددنا لا يتجاوز الثمانية أشخاص، ولكن وأثناء التجهيز بحثنا عن الفحم، ولكننا لم نجده، وفجأة قابلنا أحد أطفال المنطقة الذي طلبنا منه أن يشتري لنا فحمًا، وقد فعلها واشترى لنا الفحم، ولكن ولسوء حظنا اكتشفنا أن الفحم هو ذاته الذي فقدناه في طريقنا.. لقد باع لنا نصفه وبسعر مضاعف!
قسمنا المهام في ما بيننا، وأعددنا الطعام معًا، وأكلنا، بعد ذلك أخذنا استراحة قصيرة، ثم توجهنا نحو مدينة الحديدة. هناك تقابل الباعة الصغار ينتظرونك عند كل مطب.. يبادرونك بابتسامة صغيرة يفتقدها الكثير من باعة المدن.. يحاولون إقناعك بشراء بضاعتهم بكل الوسائل، منهم اشتريت عصا لتعينني في رحلاتي.. واشترى أحد زملائي صميلًا.. شكله جميل ورأسه عظيم.. أبيض اللون أخضر العود.. جميل ومخيف في الوقت نفسه.. إنه الصميل الأخضر يا سادة.

 

الحديدة

الحديدة ذات صباح(النداء)
الحديدة ذات صباح(النداء)

وصلنا إلى مدينة الحديدة مع غروب الشمس، كان الجو عليلًا ولطيفًا، غيرنا ملابسنا الثقيلة بأُخرى خفيفة.. تمشينا عبر شارع صنعاء إلى حديقة الشعب مسافة 3 كيلومترات.. كانت فرصة لممارسة هوايتنا بالمشي على الأقدام.. كثير من سكان الحديدة يلبسون ثيابًا ثقيلة.. فهذا الجو الذي نعتبره معتدلًا هو شديد البرودة بالنسبة لهم.
استمررنا في المشي، وقررنا الذهاب لتناول العشاء في أحد المطاعم الشعبية المشهورة بإعداد طبق الفول.. نعم فهم يتفننون بإعداد هذا الطبق ولا غيره، تخصص مميز لطبق مميز. ينزل الطبق مع الثوم الأخضر والسحاوق.. والأهم من هذا كله يقدم كأس صغيرة تحتوي على "زيت الجلجل" القيم! في الحقيقة هي أصغر كأس يمكن أن تراها في حياتك، صغيرة الحجم غالية الثمن يتم صب "زيت الجلجل" على طبق الفول، فيعطيه نكهة محببة وحلاوة خفيفة.. حقًا إنه طبق رائع يستحق كل فلس يصرف مقابل أكله.
أنهينا عشاءنا القيم، وتوجهنا نحو السكن المقرر الإقامة فيه، مشيًا على الاقدام. كان الجو رائعًا لدرجة لا يمكن أن تستمتع به لو كنت جالسًا على كرسي في إحدى وسائل النقل.
في الصباح الباكر، وبروح كلها حماس، توجهنا نحو ساحل "الكثيب" للسباحة. وفي الطريق توقفنا لشرب حليب الإبل الساخن المحلوب في نفس اللحظة، وصلنا الشاطئ، وسبحنا حتى موعد الغداء.
حينما حان موعد الغداء قررنا أن يكون الطبق حُديديًا مميزًا.. بحثنا عن سوق يسمى سوق "الصباليا"، تهنا ونحن نبحث عنه حتى اضطررنا إلى مرافقة أحد السكان الذي كان راكبًا على دراجته النارية، وصلنا المطعم، وكان الطباخ يطبخ "صانونة السمك" على المقالي.. كنت أود إخباركم برأيي في الطبق، لكن لم يسعني الحظ في ذلك، فبمجرد أن ذهبت عيني بعيدًا عنه وجدت قد اختفى السمك من أمامي، لا أدري كيف، كان المقلى خاليًا، فقد هجم عليه الآخرون مرة واحدة.
توجهنا بعد العصر نحو قرية "النخيلة" بمديرية الدريهمي (30 كيلومترًا جنوب الحديدة)، وأقمنا في منزل أحد الأصدقاء على ساحل البحر. بساتين النخيل تملأ المكان، وجذوع النخل طويلة لدرجة تشعر وأنت بجوارها كأنك قزم.
عند الصباح الباكر، وحينما استيقظنا، كانت الإطلالة ساحرة، وقفنا أمامها كأننا نقف أمام لوحة فنية من العصور الوسطى. كان الشاطئ يمتلئ بقوارب الصيد القادمة من عمق البحر، والصيادون يمرون بجانبها محملين بأرزاقهم من الصيد.. يمشون في الماء الذي يغطي نصف أجسادهم، بكل ثقة.

 

جزيرة الأصداف

اصداف متنوعة( النداء)
اصداف متنوعة( النداء)

على مسافة 50 مترًا من الساحل في عمق البحر، تطفو جزيرة صغيرة.. سبحنا إليها، وكانت مياه البحر تغطي أجسادنا حتى منطقة الصدر، بعدها صلنا إلى نقطة غمرتنا فيها المياه تمامًا، كانت لحظة مخيفة جدًا، عاد البعض من شدة خوفه، بينما غامر البعض الآخر لاجتيازها.. مسافة مترين فقط تغمرك المياه، ثم تعود لتغطيك إلى الصدر.. كانت جائزتنا الوصول إلى الجزيرة التي سميتها "جزيرة الأصداف"، وذلك لكثرة الأصداف فيها.
تنتشر الأصداف في الجزيرة على شكل خط كأنها طريق مرصوف.. أصداف غريبة وكبيرة.. بعضها تشبه الأشواك، والبعض الآخر كالآذان.. شدتنا مناظرها، فقمنا بجمع المميز منها.
تمشينا على الجزيرة، وسبحنا كثيرًا.. قاع البحر يبقى قريبًا.. مهما تعمقت يبقى نصف جسمك خارج المياه.. في أسوأ الأحوال تصل المياه إلى الكتفين.. دخلنا إلى مسافة تقدر بـ200 متر.. ومازلنا نقف على الرمل.. مازلنا نلمس قاع البحر بأقدامنا.. كانت الأمواج تتناوب علينا.. نرى أطرافها تلتف أحيانًا.. وكأنها أشرعة.. البر بعيد، والمياه من حولك كأنها السماء.. لحظة تأمل تخرجك من آلام العصر كأنها الطبيب لأرواحنا.
رأيت الأسماك تقفز فوق الماء كأنها تمرح معنا لتصنع لنا شعورًا من البهجة والسرور. بعدها رأينا قاربًا صغيرًا طلبنا منه رحلة بحرية حول المكان، ولم يمانع بلفة صغيرة بمقابل 4000 ريال، فكانت رحلة قصيرة أقل مما نتوقع، كان القارب يبحر بسرعة، والماء يتطاير على وجوهنا بسبب ارتطام الأمواج بمقدمة القارب المسرع، وكنا نتمسك بجوانب القارب بقوة حتى لا نسقط. المحزن في الأمر أننا لم نستمتع بسبب السرعة والخوف من الوقوع.

بيوت سرطان البحر التي تظهر على شكل حفر على الشاطئ(النداء)
بيوت سرطان البحر التي تظهر على شكل حفر على الشاطئ(النداء)

أخيرًا وصلنا الشاطئ.. حيث سرطان البحر يصنع بيوته على شكل حفر في الرمل الرطب.. يخرج الرمل على شكل كرات صغيرة.. ينشرها حول فتحة بيته كأنها الزهور.
كانت رحلتنا جميلة، لكنها رفضت أن تنتهي قبل أن تمنحنا بعض الذكريات السيئة التي لم تترك أحدًا منا إلا دمغته.. عدت بحروق شمس استمرت لأسبوع.. ودخل أحد الزملاء المستشفى بعد أن سقط على الحوض. واثنان سقطت موبايلاتهما في الماء، وآخر سرق منه صندله.. وواحد ضاع منه شيرت السباحة، وفص خاتمه العقيق. ومع كل ذلك كانت من أجمل رحلات حياتي.. رافقني فيها سبعة من محبي الرحلات والمغامرة في فريق ( الهاش).