حرب في المكان الخطأ

حرب في المكان الخطأ

رغم أن السعوديين شاهدوا فيلم "الحرب في صعدة" 5 مرات، إلا أننا نراهم مصرين على مشاهدته للمرة السادسة بوهم أن نهايته هذه المرة ستكون مختلفة، ولعل ذلك وحده ما فسر المسار الغريب في عمليات إخلاء القرى اليمنية على الحدود، والتي جرى تنظيفها من السكان قسرا تحت وقع صواريخ التورنيدو والأباتشي وإف 15 السعودية، والتي استمرت مدى أيام تقصف القرى اليمنية على الحدود بذريعة التصدي للمتسللين.
لا شك أن نظام الجوار طالما شعر بأن خروج حزب الله اللبناني من حربه مع إسرائيل عام 2006 منتصرا، كان انتصارا لطهران وهزيمة لمشروع إسرائيل، وربما دعاه ذلك للمغامرة سعيا إلى تسجيل انتصار في معركة أشعلها في المكان الخطأ.
>أبوبكر عبدالله
> شنت السعودية حربا على اليمن بكل أنواع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة لتجسد حقيقة أن الديكتاتوريات هي من تصنع الحروب وتجلب الخراب
> الطائرات الحربية السعودية هي وحدها من انتهكت السيادة اليمنية وهي المسؤولة عن المأساة الإنسانية التي داهمت القرى اليمنية الحدودية
لعلنا سندرك اليوم وغدا غياب المبادأة في الحرب التي شنتها الرياض منتهكة فيها السيادة اليمنية، حيث لم تخف في الواقع النية المبيتة لإشعال حرائق في الحدود اليمنية أملا في توجيه رسالة إلى طهران بطي صفحة الحرب الباردة والبدء بمواجهة مباشرة ليس في أراضيها، بل في أراضي الآخرين تجاوزا للخسائر. ولعل الأشقاء سيدركون متأخرين أن الرسالة لم تصل سوى إلى الوسيط الذي توقفت عنده على شكل زوبعة أحرقت العديد من القرى وشردت آلاف السكان وخلفت جراحا كبيرة في النفوس.
نقول ذلك لأن الحرب التي شنها الجيش السعودي كانت في الواقع ضد اليمن بعدما تحولت من رد عسكري على محاولات تسلل المسلحين الحوثيين إلى ما قالت إنه أراضٍ سعودية، إلى حرب شاملة مسرحها الحدود اليمنية الشمالية.
لقد شنت السعودية حربا على اليمن بكل أنواع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، لتجسد حقيقة أن الديكتاتوريات هي وحدها من تصنع الحروب وتجلب الخراب للشعوب. وعندما تكون هذه الديكتاتوريات خيارا شعبيا يحظى بالتأييد بل والدفاع عنه باستماتة دون كيشوت، فهذا يعني أننا قادمون على المزيد من الكوارث.
لا نقول ذلك جزافا فعندما رأينا أن قرار الحرب كان فرديا من نظام يتشدق بالعروبة والإسلام، أدركنا أنه غارق في الفساد ويعاني من إنفلونزا غياب المؤسسات، وذلك بالضبط ما أثار نهم المؤسسات الأصولية المتطرفة التي أبدت تطلعا ونهما لخلق حرب "يصل دخانها إلى طهران" بعنجهية غير مسبوقة.
ولعل ذلك بدا واضحا بالتعاطي مع بيانات التأييد المتتالية الصادرة عن دول مجلس التعاون الخليجي والعديد من البلدان العربية الغارقة بالمخاوف لحق المملكة في الدفاع عن أراضيها، إذ فهم الجوار الرسالة على أنها تأييد لشن حرب شعواء على إيران في الأراضي اليمنية، لتحول السلطات السعودية تلك البيانات وقودا لحشد تشكيلات من الجيش بترسانة سلاح هائلة أنتجت مناطق عسكرية وعازلة، في تداعٍ أثار الكثير من الأسئلة.
 
***
نماذج طافحة
أقر بأنني أهدرت ساعات بل أياماً وأنا أتابع ما تكتبه ماكينة الإعلام السعودي الفاحش الثراء عن اليمن وأزمة الحوثي، وتبشيرهم بالصوملة وانهيار الدولة، وأكثر من ذلك وصفهم اليمنيين بالخيانة لليد التي ساعدتهم، والادعاء بأن المملكة طالما دعمت التنمية في اليمن، وطالما كانت الرافعة لانتشال اليمن من مستنقع الأزمات.
كنت أحيانا أشعر بالغثيان عندما أطالع كتابات تصف اليمنيين بـ"الصهاينة"، بل وتذهب لأبعد من ذلك بالقول إن "الصهاينة في فلسطين المحتلة أرحم ألف مرة من صهاينا" يقصد اليمنيين، لكنني في النهاية شعرت بالاطمئنان أننا في الواقع أمام نظام متخم بالثروة، لكنه عاجز عن إدارة أزمات بلغة سياسية عصرية.
وفي المرة السابقة عندما قلت إن الجيش السعودي انتهك السيادة اليمنية رد البعض بلغة استعجالية لم تخلُ من اتهامات بالإنكار من دون تأمل وفحص لما يجري منذ أيام في الأراضي اليمنية على الحدود، والتي كشفت تفاصيلها الخفية الصحافة السعودية التي نشرت سلسلة كبيرة للغاية من الأخبار والتقارير التي أكدت أن ما حدث ويحدث على الجانب اليمني من الحدود ليس إلا انتهاكا صارخا للسيادة مع سبق الإصرار.
على سبيل المثال لا الحصر؛ نشرت الصحف السعودية السيارة والإلكترونية يوم 18 نوفمبر الجاري (صحيفة "الرياض" وموقع "جازان نيوز" نموذجا) أخبارا وتقارير بشأن الهجمات التي شنتها القوات المسلحة السعودية والمواجهات التي خاضتها مع المسلحين الحوثيين في منطقة غراز اليمنية، وتحدثت عن طرد الجيش السعودي "فلول المتسللين من تبات بن عنان ومحجر وتبة متارس حطمان جنوب منطقة غراز" وسيطرته على تلك المناطق.
وأقرت الصحف السعودية (صحيفة "المدينة" نموذجا) بمواصلة انتهاك المياه اليمنية من طريق القطع التابعة للقوات البحرية السعودية، إذ تحدثت الصحيفة عن عملية هجومية شنها الجيش السعودي واستهدفت صيادين يمنيين في مديرية ميدي، إلى قصفه مواقع في جزيرة العاشق اليمنية بعد رصد القوات البحرية الملكية السعودية قاربين وعدم استجابتهما للتحذيرات، وتأكيدها أنه "تم التعامل معهما بما ينبغي لردعهما وباشرت الفرق البحرية المتخصصة البحث عن مصير القاربين لمعرفة هوية المتسللين والمواد التي كانت بحوزتهم"، فضلا عن تأكيدها قصف المقاتلات السعودية أهدافا في جزيرة العاشق الكبرى على ساحل ميدي، والتي قالت إن الطيران دمرها بعدما أطلقت النار على الطائرات الحربية السعودية.
لا يمكن أمام هذه الأخبار والتقارير التي لا تزال تتصدر الصفحات الأولى في الصحف السعودية والنشرات الرئيسية في الفضائيات، إلا أن نقول إن مسلسل انتهاك السيادة مستمر بعنجهية غير مسبوقة، إذ إن المناطق التي قصفها الطيران السعودي في غراز ليست إلا أراضٍ يمنية، وعلينا أن نستدل على ذلك بالبيانات التي نشرها الموقع التابع لوزارة الدفاع يوم 16 نوفمبر، والذي أكد أن هذه المناطق كانت مسرحا لمواجهات مع الجيش الذي سيطر عليها تاليا بعد مواجهات مع الحوثيين.
أما الجزيرة التي قالت الصحف السعودية إن سلاح الجو الملكي قصفها بالصواريخ، فقد كانت في الواقع جزيرة العاشق الصغرى اليمنية التي صرح مسؤولون محليون في ميدي يومها بأن انفجارات شوهدت في الجزيرة لم تعرف حصيلة ضحاياها في حين تعرضت 6 قوارب صيد لصيادين محليين للتدمير واعتقل العشرات منهم في ليل رغم أنهم يمارسون نشاطاتهم في الأراضي اليمنية.
يصعب في الواقع قبول فكرة أن قوارب صيد أطلقت النار على طائرات حربية سعودية من جزيرة خاضعة للسيطرة السعودية أصلا، ثم كيف للطيارين الليليين أن يقصفوا موقعا في الأراضي السعودية وعلى بعد أمتار منهم بوارج من القوات البحرية السعودية تحاصر الساحل اليمني؟
حادثة أخرى كشفتها وسائل إعلامية سعودية تحدثت عن قصف "الطيران الحربي السعودي منطقة وادي الموقد" في العملية التي قالت إنها أدت إلى "مقتل 20 من المتمردين"، مع العلم أن هذه المنطقة يمنية 100%، وكانت وزارة الدفاع أعلنت في 2 نوفمبر الجاري أن الجيش سيطر عليها، بل إن الوزارة أعطت تفاصيل أكثر بشأن هذا الوادي الذي قالت إنه يقع شمال غرب قرية المركاب الواقعة غرب جبل حرم اليمني.
ويبدو أن الخلط الواضح والنقل غير الأمين للأخبار أصبح سياسة لدى وسائل الإعلام السعودية التي لم تكف عن سرد عمليات عسكرية جوية وبرية للجيش السعودي في الأراضي اليمنية، وتقدمها للناس على أنها عمليات تجري في أراضٍ سعودية، والأدهى من ذلك تأكيدات المسؤولين اليمنيين الذين لم يكفوا عن التنظير وتبرير أعمال انتهاك السيادة.
أما مسلسل الاعتقالات فقد تواصل بوتيرة عالية للغاية من طريق كتائب "المجاهدين" التابعة للجيش السعودي، والتي يعتقد أنها تعمل في إطار جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية، أو ما يعرف باسم "المطاوعة".
وعلى حد تأكيدات موقع "الإسلام اليوم" السعودي، فإن عمليات الاعتقال الواسعة لليمنيين لم يقتصر تنفيذها على دوريات الجيش السعودي التي انتشرت في طول وعرض مناطق الشريط الحدودي بعد إخلاء القرى قسرا، بل إنها امتدت إلى آلاف المواطنين السعوديين من الشباب والدعاة الذين تطوعوا لشن حملات اعتقال لليمنيين في مناطق كثيرة بزعم الجهاد والدفاع عن الإسلام.
ولعل المشككين ليسوا بحاجة إلى دليل أكبر من التصريح الذي نشرته وسائل الإعلام السعودية لخالد بن قزيز الذي قدمته على أنه الناطق الإعلامي لـ"قطاع المجاهدين التابع للقوات المسلحة السعودية"، والذي أكد أن عدد المعتقلين اليمنيين بلغ حتى الاثنين الماضي 3090 متسللا، وهؤلاء يضافون بلا شك إلى 9 آلاف معتقل زج بهم في مخيمات الاعتقال الجماعية للمتسللين في ظروف لا تزال غامضة.
***
حرب بلا حسابات
يشعر المرء أننا أمام نظام يدير حروبا بلا حسابات، فبعد أيام خطابات التعبئة والتهديد بتحويل الشريط الحدودي المفتوح منذ عقود إلى "منطقة قتلـ"، والتنصل من المسؤولية، والدفع باتجاه رفض الحلول السياسية والحوار بما خلفته من شحن وتعبئة وندوب في النفوس، يأتي خطاب آخر بلغة أقل حدة، يتحدث عن التعاون والأخوة والإسلام وحقوق الجوار.
نعرف مدى تطلع النظام السعودي الذي طالما تباهى بميزانياته الخرافية ووفرته المالية الباهظة، والتي لم يكف عن توجيه جزء منها لإضعاف الدول المحيطة، إلى إشعال حرب حتى وإن كانت مع طرف ضعيف، كي يقنع بها الآخرين أنه مؤهل للعب دور أكبر في المنطقة يتيح له مركز قيادة في مشروع الشرق الأوسط الكبير.
ذلك أن العمليات العسكرية السعودية لم توفر الأمن لحدود المملكة قدر ما أشعلت حريقا كبيرا وخرابا بالغ القسوة طاول القرى الحدودية اليمنية والسعودية، وشرد آلاف المدنيين، في معادلة لن تنتج على المدى المنظور سوى المزيد من العنف والإرهاب، وربما تحول المنطقة الحدودية إلى حقل ألغام.
ولمن يقول إن من حق المملكة السعودية الدفاع عن أراضيها وسيادتها، فعليه أن يعرف أنه وبعد مرور حوالي أسبوعين على بدء العدوان العسكري على الأراضي اليمنية، جاء إعلان العاهل السعودي ليؤكد استكمال تطهير أراضيه من المتسللين، ومع ذلك استمر سيناريو الانتهاكات بالقصف الصاروخي والمدفعي السعودي على الأراضي اليمنية برا وبحرا، من دون مبرر.
ولمن يقول إن السعودية قلقة من النشاطات الإرهابية لخلايا "القاعدة" على حدودها، والتي غالبا ما تجد في مناطق التوتر مناخا ملائما للتحرك وشن هجمات، أن يعرف أن تجارب التاريخ والجغرافيا يقولان إن العنف والحروب هي وحدها من تصنع الإرهاب، في حين أن التمترس وراء ذريعة التدخل الإيراني في صعدة وتحميله مسؤولية الكارثة الحاصلة على الحدود هو في الواقع احتيال على الحقيقة، فدوي المدافع وصواريخ طائرات التايفون والتورنيدو والأباتشي وإف 15 السعودية التي قصفت ولا تزال قرانا ليل نهار، هي وحدها من انتهكت السيادة اليمنية، وهي وحدها المسؤولة عن المأساة الإنسانية التي داهمت إخواننا في القرى الحدودية اليمنية التي تعيش اليوم أخطر كارثة إنسانية في تاريخها.
ما ينبغي التأكيد عليه هو أن التحول الكبير في معادلة الحرب في صعدة من حرب يمنية ضد حركة مسلحة إلى حرب سعودية ضد اليمن وسيادته، صار يستدعي قراءة وطنية عاجلة، خصوصا وأن نفق الحرب بما تنتجه من أحقاد وكراهية وثأرات، يتوسع كل يوم، كما أن شبح الحرب المذهبية الذي بدأ اليوم خارج السيطرة، مرشح لأن يتحول قريبا إلى كرة نار ستداهم الجميع بلا استثناء.