الدولة والمدينة تعرفان باللامحرم: رائحة الخوف القميئة لـ"شُصار الله"

الهيئة النسائية الحوثية خلاص استعراض في صنعاء 2018
الهيئة النسائية الحوثية خلاص استعراض في صنعاء 2018 (إعلام الحوثيين)

"كل متعصب ليس إلا وحشًا ثائرًا يجدر الابتعاد عنه"؛ رواية "الساعة الخامسة والعشرون"، ص118

**

لم أعد أدري ما تلك الرائحة -الكتمة التي كنت أشتمها كل ساعة، وأنا في اليمن. كانت تلاحقني حتى في منامي، لا أحلام سوى كوابيسي، ونوبات هلع حتى مطلع الفجر، وللأسف لا أدري كيف اختبأ صندوق تلك الروائح، وتسلل معي إلى المنفى، حتى ظل ذلك الصندوق الأسود جاثمًا على شرايين عقلي وجسدي وروحي المنهكة.

عرفت، بعد ذلك، أن تلك الرائحة الكتيمة ما هي إلا رائحة الخوف وذكرياتها السرمدية، التي تراكمت وترسبت في قاع النفس. لقد كانت تلك الذاكرة المثقلة والمعتلة ما هي إلا: وجه الحوثية وجندها من فيالق "فوضناك" ومليشياتها الحيدرية وزينبياتها: "الباسيج" بنسختها الأردأ في السواد والتخلف والهمجية الفائضة، ومقابرها المبثوثة في كل شبر من البلاد، وزواملها الداعشية. إنها الحوثية التي تجب ما قبلها من مليشيات الإسلام السياسي/ الوهابي، امتصت زبدة أيديولوجيته وعنفه، وتوجتهما بما هو أعنف وأقسى وتوحشًا. إنها الاجتثاث لكل ما يدب على الأرض والسماء، سدنة القيامة، وتشجراتها: المسيرة القرآنية، والهوية الإيمانية لـ"شُصار الله"، وعمدت تلك التراجيديا الدامية بالمَحرم، ذلك المخنق الفاتك بالنساء وحركتهن وحياتهن حتى اليوم من مطلع 2024.

 

ما رائحة ذلك المحرم؟

رائحة المحرم القميئة والكتيمة، تتواشج مع رائحة فئران ميتة، أبقار نافقة تُركت لحومها للنسور في صيف ساخن قاري، رائحة الجوع المنفلت في كل شبر من اليمن، رائحة الجهل والتجهيل، وهما "أسمى أمانينا"، كما تقول زواملهم. رائحة الماضي والأسلاف والمقابر والجثث المقدسة التي فُرشت بعفن أخضر الموت وانفلات صرخاته في كل ربوع البلاد، تشبه بقوة رائحة بالوعات المجاري الطافحة من سنين في شوارع وحارات وأزقة صنعاء وعدن وتعز وصعدة، و... و...

أما صانع ومفجر رائحة المحرم البليد، فهو ذلك البطل الاستعراضي، سيد/ لورد الذباب في ثورته الذبابية 21 سبتمبر 2014، برائحة المحرم، والذي لا عمل له سوى تجديدها بما يناسب رائحة الخوف القميئة الصالحة لكل مكان وزمان: رائحة الخُمس الناهب بالبصيرة الإلهية، المبتلع للبشر والشجر والحجر باسم الله وعلي بن أبي طالب والحسين والعترة والزهرة وآلاف من أصنام الكهف المهلك، ورائحة الزينبيات وهن يلاحقن خط كحل ومسحة ماكياج، ومشقر ريحان، وتليفونًا، ومقرمة وبالطو، وصورة، ورسمة وردة أسفل كم الشرشف، أو حبة ترتر أسفل النقاب. إنها رائحة الهوية الإيمانية الحوثية، وكل الهويات الدينية، المتلذذة بخبز الجرائم تحت اسم "الحفاظ على الأخلاق والفضيلة، وتقريب النصر"، و"الحرب الناعمة"، تلك المنظومة من الفرغة السائلة لا عمل له/ لهم سوى بتر آخر عرق للحياة على رقعة جغرافية بائسة اسمها: اليمن، ونسائه الأكثر بؤسًا؛ تارة بتقاليد الإخفاء القسري بشطب وجوههن وأجسادهن وحركتهن، بالشرشف والحرام، وليس بآخر: المحرم!

لقد تفوق فكر "سيد الذباب القرآني الناطق"، باشتغاله على "المحرم" على "جاك" بطل رواية "لورد الذباب" لوليام جولدنغ، حيث يصبح بطل الرواية أنيس بالمقارنة بعمره (طفل)، أمام سيد ذباب اليمن الأشد فتكًا: القرآن الناطق.

ما رائحة المحرم لزينبيات "شُصار الله"؟

قطيع كبير من نساء "سيد الذباب الإلهي"، بعضهن أديبات، طبيبات، مؤهلات علمية بدرجة بروفيسور، كاتبات وصحفيات، معلمات، وحقوقيات، ورئيسات منظمات إنسانية، وسيدات أعمال، ومقيمات في بلاد "الموت لأمريكا وأوروبا"، لكن الكثير من العكفة الزينبيات هن من النساء الأكثر فقرًا وتهميشًا، تم تجنيديهن ليباركهن سيد الكهف بتفلة البصاق الإلهي (عطر السيد)، وتزينهن برائحة الجرامل والبارود، والنهب الإلهي، وبث الرعب في بيوت السكان، واعتقال النساء، ومراقبة الأعراس النسوية، للخرق والرقع "الملبس"، والاشتراك مع أسيادهن من المليشيات الذكورية، في التعذيب، وكلما كان الرعب أعنف، كان مبشرًا بتحقق النصر الإلهي لسيد الذباب اليمني، وسيد الذباب الأكبر -الأب- المرجعية في طهران وقم والنجف الأشرف.

تلك الروائح لـ"التختة" المسوسة بالأحقاب والأزمان لما قبل إنسان، تقاتل اليوم حتى لا تبقى "مهسا أميني" في إيران، ولا تبقى "انتصار الحمادي"، "فاطمة صالح العرولي" ومئات النساء القابعات في سجون سيد الذباب "شصار الله"، كونهن لا ينتمين للعرق الطهوري، وللزهراء سيدة نساء العالمين، والأخير -العالمين- ليس سوى كهفه تحت الأرض وقاته/ علفه، والبردقان، وأوظار سامة من خطب آمرة بالمزيد والمزيد من المقابر المتروسة بجثث الشباب والأطفال "المجاهدين"، وزوامل لعلم الهدى، ومليونيات القطيع المسفوخ والملطوم بتفلة علم الهدى، "اضرب بنا البحر، وسنكون حجارة من سجيل..."، ورغوة تكرع:

إذا لم تكن أنت الإله لشعبنا

وفاءً وعهدًا بل فضاءً محتما

فلا نبضت للشعب روح ولا علت

له راية حتى يُكبّ جهنما

إنهم يوغلون في بخ تلك الروائح على العالم، ليقولوا: نحن هنا، نحن الداعش الحقيقي، دواعش الرقة والموصل وسنجار ليسوا سوى تلاميذ أمام "أنت الإله لشعبنا" -الفرع اليمني.

فأي جرم ارتكبناه بحيث يسلط علينا علم الهدى، و"نكب جهنما"، وفوق الموت، ارزم ارزم"!

 

من ينقذنا من فكر "سادة العورات"

 

كلما أقرأ عن أخبار اعتقال النساء والتلصص عليهن وملاحقتهن، والتنكيل بسيف المحرم والفضيلة، وصرخة الأجداث، والسلف الطاهر، القرآن الناطق، أعيد قراءة لورد الذباب لوليام جولدنج، ومزرعة الحيوان لجورج أورويل، 1984 وذبابة في الحساء، والساعة الخامسة والعشرون، و...، ففي كل صفحة، أرى صورة الإله/ السيد-الوحش، "لورد الذباب وجهنم"، وجماهيره المستوحلة من مليشيات الذكور والزينبيات، يذكرني بـ"دودة الجدمي" التي تتكاثر في كل ثانية.

فمن ينقذ اليمن ونساءه، من سيد الذباب القرآني الناطق والناطف، وشصاره المجاهدين/ات الذين لا عمل لهم سوى إعادة إنتاج القطيع ورصها، والتلذذ بمشاهدتهم كلعبة فرجوية متجولة، محمية بالسلاح والروبوتات، والحروز والقطران، والخرافات الإيمانية، والخطب اليومية، واستظرافه بضحكة عابسة، ومسبحة، وخاتم ياقوت، وهوية إيمانية لإفناء كل شيء؟

من يزيل ويمسح عن نساء اليمن رائحة المحرم المصنع -البلدوزر المتجدد والمتجذر من كهف الطاعون القرآني، وأحد أظلافها القهرية الدموية "الهوية الإيمانية"، برائحة انسحاق الروح، القسوة والتوحش في نهش آخر ما تبقى من جسد المرأة اليمنية والعائلة اليمنية؟

من يحمينا من المجاهد -قرين القرآن "جاك الطفل"، وهو يعتمر كلاشنكوف، ويترصد أنفاسك، ويهاجم بيتك ومكان عملك، يعمر بندقيته في وجهك، ويأمرك بأن تنزل من الباص ليفتشك ويفتش حقيبتك ومقعدك، هي رائحة هلع ابنتك -الطفلة الملثمة المقفصة عيونها (حدث لي في قلب العاصمة، من 2015، وحدث لي ولابنتي مريم، ذات سفر وهروب مروع، من 2017)؟!

هل كتب على الإنسان في اليمن، أن يظل هاربًا متجنبًا رائحة الخوف المزمن، وهروبه إلى المنافي، كما كان سائدًا في عهد الأئمة، لتتجدد رائحة الخوف في عهد الأبناء والأحفاد، باسم الحق الإلهي، إلى رائحة المحرم المخيف والمجيّف معًا؟

هل كتب علينا -نساء اليمن- تهاطل سادة التوابيت والذباب القرآني، أن نتجرع استنشاق مبيدات المحرم، لتضاعف موتنا المستدام، لآخر عرق ونفس، تتفنن فصائل مقاتليه كتائب الزينبيات والفاطميات والزهرات، والمشرفين/ات، لتلغيمنا بالقرآن الناطق، وأساطير الذباب؟ فهل هناك فرق بين داعشية "سنجار"، وأفغانستان، وداعشية الكهف القرآني الناطق للهوية الإيمانية القاتلة في اليمن؟!

ما رائحتك أيها الخوف، كـ"أنا"؟

ظللت سنوات لأعرف معنى رائحة الخوف؟ مع الحرب تسربت واستوطنت في أعماقي، وتفشت ناثرة روائح الكتمة والعتمة، الإرهاق المنساب، الغد الهلامي، يتخذ صنانيره اللاسعة أمام ملاحقة الماء والإيجار، واللاكهرباء، والقصف، المجاعة، الجهل المفرط والمقدس، وحشة الشوارع، شناعة المليشيات المبندقة وهي تترصد أنفاسك وأحرفك، وكاميرتك، وسلاسل الخراب من المفتين من الفقهاء والمشايخ، وهم يطرزون الفتاوى بالتكفير والفسوق وعذاب النار والقبر، والشيطان يغدو في جسد امرأة، والمرأة منبع الشرور، الفاجرة الفاسقة، إن لم تتحجب، إن رقصت، وشدت بأغنية، إن خرجت بدون محرم، وعصت أوامر "السيد" وذبابه، ويا ويلنا من وقود جهنمياته.

 

قبل المختم:

زرت صعدة المصفدة بالعزلة، قبل الحوثي وبعده، في 1998، شاهدت نساء مصفدات بالشرشف والمنع التقليدي، لا وجه مكشوفًا، لكن ستجدهن يبعن منتجاتهن في الأسواق، بلثمة، وستارة، في الحقول، والطرقات، ستجدهن في كل مكان، بل ستسمع موسيقى أعراس عربية لأعراس في "رازح" و"منبه".

في فبراير 2014، زرتها، رأيت حزام النساء المصفدات ممتدًا على الطرق الطويلة من عمران، وقلب صعدة، وأريافها، وهن يتسولن مع أطفالهن، حزام وشريط بؤس وجوع ملفعات بالسواد، والمهالك لـ"علم الهدى" القرآني، لم يكن معهن محرم سوى المجاعة وشعارات الصرخة والثكنات المفخخة، وغبار الشاصات، وبيوت اللبن المهدمة، و... الخ.

 

سؤال: أين أضع هذه السطور في مقالي هذا؟

 

"ترتد بي الذكريات، سياط المحرم، في ثنايا حياتنا، منذ منتصف الثمانينيات، مع تغول الإخوان المسلمين -الوهابي، وتجدده بوجه آخر اسمه حزب التجمع اليمني للإصلاح، 1990، مع جموع السلفيين، وهم يسألوننا في أكثر من مكان، وخصوصًا عند سفرنا من تعز إلى صنعاء، أثناء دراستنا في جامعة صنعاء: أين المحرم؟ لكن، مع وجود الدولة الهش، كُبح جماحهم، وإن كانت تظهر من حين إلى آخر.

 

قطف خبر:

"سيد الذباب"، من أين سنأتي لك بمحرم، وأنت قد أفنيت الآلاف من الرجال والأطفال والشباب في محارقك الجهنمية الوهمية التي لا تعد ولا تحصى، وعمرت البلاد بمشاريع الشهادة، وتركت البلاد والقرى بلادًا للأرامل والثكالى والأيتام؟

من أين لنا بـ"مصانع الرجال" كما تقول غاراتك من الخطب والألغام، وقد سفحت دم اليمنيين، ليبعثوا لنا بمحارم حتى من خرق؟ من أين؟ مافيش/ مابش، من أين؟ بكل لغات العالم، لقد جففت منابع الخصوبة أرضًا وبشرًا وشجرًا، بـ"جهاد تحت الطلب"، بنكك العامر، وبحرك الذي لا ينضب، ومخازنك العامرة بالذكور -المحرم، لكنهم جثث وحدها الديدان القرآنية تحتفي بهم؟!

فكيف تشوفوووواااا؟!

  • الشُّصار: جسم غريب "شوكة" وغيرها، يدخل جسم الإنسان، إن لم يتم إخراجه، يسبب التقيح، والحمى، وقد يؤدي إلى بتر الجزء المصاب.