الميسري (1)

حين قابلته للمرة الأولى، كان ذلك في خيمة قيادته للكتيبة الخامسة التي تتمركز في مدينة عتق من بلاد العوالق.. أبلغته بأنني قد "نفيت" من قيادة الجيش للخدمة في كتيبته عقابًا لي لإساءة معاملتي لرؤسائي في العمل! عندما تسيء إلى من هو أعلى رتبة منك في الجيش، تعاقب.. لكن إذا أساء هو إليك، فإنه يكافأ بالترقية!

الكولونيل علي عبدالله ميسري، قائد الكتيبة الخامسة في جيش محمية عدن (الليوي)، وطبعًا عليه قائد إنجليزي أعلى رتبة منه، كعادة الإنجليز في قوانين استعمارهم.. تخرج الميسري بامتياز من كلية ساند هيرست الإنجليزية العسكرية الأشهر في العالم.. وفي قيادته كان بامتياز أيضًا من أفضل من عرفهم الجيش من القيادات العربية.. كان يجلس على سرير ميداني وتحته مدفأة للطقس البارد.. وبيده كتاب بيروتي من تراجم الكتب الرومانسية، يقرأ فيه.. قدمت له ملف خدمتي، وقلت: إني برتبة ستاف سارجنت (نائب أول) ورئيس كتبة، أو رئيس قلم كما يحلو للبعض أن يسمي تلك الوظيفة.. نادى بأعلى صوته: يا بوزيد.. فدخل علينا بوزيد.. سمين قصير ومرح.. وطباخ ماهر.. أمره الميسري بأخذي إلى شؤون المستودعات، لتزويدي بما يلزم من متطلبات السكن الشتوي، وتحديد خيمة سكني مع صف ضباط الكتيبة.
كان نظام الخدمة تحت إمرة الميسري، يفرق عنه عند سواه.. كان أرقى وأكثر لياقة، وأكثر تحضرًا في كل شيء.. على النظام البريطاني تمامًا.. في الصباح الباكر وعلى الريق، أول ما تفتح عينيك من النوم، يصبِّح عليك نادل، ويتر يعني، ويقدم لك حبة بان كيك مع فنجان شاي! بعدها تدخل للاستحمام وتلبس اليونيفورم.. وتستعد لمواجهة يومك.. يقوم الميسري، غالبًا كل يوم، لتفقد مطابخ المعسكر.. ومستوى الطبخ ومتطلبات الطعام.. تصوروا أن وجبة الغداء المكونة رئيسيًا من الرز.. كان الرز بالزبيب واللوز.. أي والله.. وهذا ما لم أتصوره أبدًا هناك.. كان مكاننا نحن الصف ضباط في ميس (مطعم) خاص.. أرقى بعض الشيء من بندرة (مطعم) العسكر.. كان المعسكر مزودًا بكامل عدة الأفران التي تقدم كل شيء.. الروتي بصنفين.. وكذلك الكيك، ومعه بعض الحلويات.. توجيهات القائد ليكون عساكره في أفضل جاهزيتهم!
بعد نحو شهر هناك، كان في برنامج الكتيبة ما تسمى "مرشة ميدانية"، أي زحف من الحامية في عتق نحو الميدان على تخوم الصحراء.. وكان على كل فرد أن يتجهز بكامل عدته العسكرية من لباس وحقيبة تجهيزات على ظهره وخلافه.. وفعلت ما يفعله غيري بلا معاناة.. وما إن دار بنا اليوم ودخل الليل، حتى غلبني إعياء مفاجئ دخت على إثره واستلقيت على الأرض فوق كنبل المعدات التي حملناها.. وكان آخر ما سمعته من أصوات الأحياء صوت زميل يقول: الراجل محمووم، حمى زي النار.. استدعوا الإسعاف.. الإسععععاف...! ورحت في غيبوبة كاملة يسمونها طبيًا "كوما".. فتحت عيني بعد عدة ساعات في المركز الطبي للكتيبة، ورأيت المساعد الصحي صالح مفتاح.. يقول: كيف؟ الآن تمام؟ أذكر أني قلت له: لا مش تمام! كانت الأوجاع تلف جسدي كله.. وتكلم مفتاح مع ضابط إنجليزي، طبيب الوحدة.. بالإنجليزية: هل تظن أنها حمى الجدري؟ هز الضابط رأسه نفيًا.. وقال: كلا.. لا أظن.. سنرى نتيجة تحليل الدم.. وأدخلوني في غرفة كبيرة جدًا مليئة بالمرضى وأنينهم وآهات توجعاتهم.. ومن جديد دخلت في الكوما.. كان آخر صوت سمعته لمريض ينادي برجاء مرددًا : يا حكيم... يا حكيم.. ولم أفتح عيني بعدها إلا وأنا على نقالة إلى طائرة من طائرات سلاح الجو البريطاني
R. A. F.
ولم أعلم.. ولم أسأل عن أيام غيبوبتي.. يبدو أننا في عدن مدلعين كثير، ولا نحتمل البرور وويلاتها.. دخلت مستشفى سلاح الطيران الملكي البريطاني على ساحل خور مكسر، لمدة شهر، للعلاج.. ثم نقلت للعمل في سرية النقليات مع قائدها الميجور (رائد) علوي عبدالقوي يافعي، وهو أخ حسين عبدالقوي، مايسترو فرقة الجيش الموسيقية.
لم ألتقِ بالكولونيل الميسري بعد ذلك إلا مرة حين كان الجيش البريطاني يمشط شوارع الشيخ عثمان، بعدما يكسر لمبات أعمدة النور، ليحل الظلام على الثوار، ويكتفي بالدخول في صفين على جانبي كل شارع... كنت أجلس مع أحمد الحبيشي على قعادة حبال بجانب فرن عبدالودود، عيال حافة نتسامر.. ودخل الجنود البريطانيون بصمت على جانبي الحافة.. طلبوا قيامنا للتفتيش.. وفتشونا.. ورجعنا للجلوس.. وقبل خروجهم من الحافة خرج من الفرن فدائي قال إنه من إخوة الشهيد مدرم، أوقفه الإنجليز للتفتيش.. فتشوه، فوجدوا معه مسدسًا مخفيًا في حقوه مع مشط رصاص إضافي.. بطحوه على الأرض، وكلموه بالإنجليزي، ولم يرد.. وطلبوا من يجيد اللغة للترجمة.. وتطوعت للمهمة.. وكان سين وجيم وترجمة.. وخلال ذلك كلمني مدرم هذا طالبًا مني الاتصال بالقائد علي عبدالله ميسري.. قال: قل له إنهم قبضوا على أخو مدرم الصغير.. أوبه.. رجاءً.. قل له وهو بايقوم بالواجب!
كانت تلك هي المرة الأولى التي أعلم فيها أن للميسري علاقة بالجبهة القومية! وغدًا يوم آخر نكمل فيه حديثنا..
ما كان أجمل من طبيخ أبو زيد في عتق، وتنوع وجباته الشهية، أطال الله عمره.