قراءة في التاريخ العربي الإسلامي في الأندلس وحال العرب الكارثي اليوم

تعود بنا الذكرى إلى حقبة عربية إسلامية استمرت ثمانية قرون، بدأت بدخول الأندلس (شبه الجزيرة الإيبيرية)، عام 711م، حتى سقوط غرناطة 2 يناير 1492م، وجاءت بدايتها بموافقة الحكم الأموي في دمشق على طلب تقدم به واليهم في المغرب موسى بن نصير، بإرسال حملة عسكرية من العرب والبربر بقيادة طارق بن زياد، إلى شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، تحت راية الدولة الأموية، خلال الفترة 711-718م.. فقد عبرت قواته المضيق (المسمى باسمه في ما بعد) إلى البر الإسباني، محققًا انتصارات كبيرة على "القوط"، ودخل "قرطبة" فاتحًا، ثم توسعت دائرة فتوحاته لتشمل مناطق أخرى... استدعي إلى دمشق، فتوفي ودفن هناك في 720م.

جاءت بعده قيادات عسكرية يمنية، فأكملت مشوار الفتوحات وتأمين المناطق، أشهرهم السمح بن مالك الخولاني، وعبدالرحمن الغافقي المعافري الذي دق أبواب فرنسا، واستشهد في معركة "بلاط الشهداء -بواتييه"، بسهم نافذ، بعد أن كان حقق انتصارات على الجيوش الصليبية التي تفوقه عددًا، لخطأ ارتكبه الجند الذين تركوا مواقعهم لتقاسم الغنائم، خلافًا للأوامر،، وما أشبه ذلك اليوم بيوم "أُحد"... دفن الغافقي بفرنسا في العاشر من أكتوبر 732م، في جنازة مهيبة تليق بمقامه كقائد كبير.
من الجدير بالذكر، أن الأحداث تطورت في المشرق العربي بسقوط الخلافة الأموية في دمشق من قبل العباسيين.. وتمكن الأمير الأموي عبدالرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان، الملقب بـ"صقر قريش"، من التوجه إلى المغرب التي كانت تحت إمرة الحكم الأموي، ومنها توجه إلى "قرطبة"، كأول أمير أموي يحكم، ويؤسس المرحلة الأولى لدولة الخلافة الإسلامية في الأندلس، في الفترة من 756م إلى 788م، استمرت الخلافة الأموية حتى انهيارها بين 1009م و1031م، جاء بعدها عهد "ملوك الطوائف" الذين قسموا الدولة إلى 22 إمارة أو دويلة، وجاء بعدهم "المرابطون"، ثم "الموحدون" من البربر والأمازيغ والعرب، ورثوا ثراء، وأبهة الخلافة الأموية.
ساد عدم الاستقرار منذ بداية الخلافة الأموية في الأندلس، بين المضريين (القيسية) من بني أمية من ناحية، و"اليمنية" ممثلين بالقادة اليمنيين (العسكريين) من ناحية أخرى. ومن ثم بين البربر، والأمازيغ من جانب، والعرب من جانب آخر، في عهد الإمارات والدويلات.
الجدير بالذكر، أن تلك الخلافات جعلتهم فريسة لأطماع الفرنجة الذين لم يتمكنوا من العرب متحدين.
ومما زاد الطين بلة، كان الحكام المسلمون يتسابقون لكسب مودة الفرنجة في شمال البلاد، ودفع الجزية أو الضريبة لهم، وكان هذا التصرف من الأخطاء الفادحة التي جعلت الفرنجة يستقوون عليهم، ويتدخلون في شؤونهم، حتى جاء الوقت المناسب للانقضاض عليهم بالدسائس، والفتن. وقد أسهم سوء تصرف الحكام بسقوط الإمارات، الواحدة تلو الأخرى.
في واقع الأمر، إننا نبكي الأندلس بعد ستة قرون من الأفول، وسنظل نبكيها لأنها صنعت مجدًا عربيًا إسلاميًا زاهيًا جاء انهياره بعد ثمانية قرون، وكانت بمثابة إشعاع فكري، وعلمي، وثقافي لقارة بأكملها.
حقيقة، إن القلب ينفطر كمدًا وحزنًا في ذكرى تلك الحضارة الإسلامية والأمجاد العظيمة، وقد تناوحت أحجارًا وجدرانًا، وصارت مجرد حكايات من التاريخ، ناهيك عن خروج المسلمين بذلة من قبل الفرنجة، يجرون أذيال الهزيمة، وبقيت إماراتهم تتساقط بيد الفرنجة مثل قرطبة، وطليطلة، وإشبيلية، وسرقسطة، وبلنسية، ولشبونة، والمرية، وغرناطة... الخ، وأصبحت بقايا تراث عربي إسلامي.
جدير بالتنويه، أنه قبل أيام استمتعت بسماع عالم أوروبي مسلم بشريط فيديو، يلقي محاضرة عن الأندلس الإسلامية، قائلًا: إنها كانت مركزًا ثقافيًا، وفكريًا، لسكان البلاد ولأوروبا، وكان حكامها مثالًا للتسامح، والعدالة، وإنه بفضل المسلمين شيدت المدارس والجامعات، والجوامع التنويرية، والقصور، وبنيت القلاع، وتركوا وراءهم إرثًا في علوم البحار لا يقدر بثمن، كما كانت لهم صولة، وجولة في مجال العلوم، والفنون، والمعرفة، والابتكار، في وقت كانت أوروبا تغط في سبات عميق، وترزح تحت رحمة فؤوس "الفايكنغ" (القبائل الإسكندنافية الجرمانية). ويعود للمسلمين في الأندلس الفضل في تصنيع آلات الحرب، وإجادة الفنون القتالية، وتمكنوا من مواجهة ودحر غزو "الفايكنغ" الذين عاثوا فسادًا: قتلًا، وسلبًا، ونهبًا في أنحاء أوروبا... فكم، وكم سنتحدث عن تراثنا في الأندلس الذي لا يضاهيه سوى العصر الذهبي للإسلام في بغداد!
وبالمقارنة مع الأحوال الراهنة، أصبحنا مرهونين ومحكومين لا حاكمين، وتابعين لا متبوعين، نحارب ونتآمر على بعضنا البعض، ونستولي على أراضي بعضنا البعض، ونخل بسيادة بعضنا البعض تنفيذًا للمخططات الصهيونية.
ومن قلب حزين، تمكن الشاعر والسياسي، رئيس الوزراء السوداني الأسبق رفعت المحجوب، الذي حضر مؤتمرًا في إسبانيا، من تقديم مرثاته المشهورة عن الأندلس، بعنوان "الفردوس المفقود"، يخاطب فيها أبا الوليد أحمد بن زيدون المخزومي، الشاعر الأندلسي الكبير، ويحاكيه شعرًا، على النحو الآتي:
"أبا الوليد أعني ضاع تالدنا
وقد تناوح أحجارًا وجدرانا
هذي فلسطين كادت والوغى دول
تكون أندلسًا أخرى وأحزانا
كنا سراة تخيف الكون وحدتنا
واليوم صرنا لأهل الشرك عبدانا
نغدو على الذل أحزابًا مفرقة
ونحن كنا لحزب الله فرسانا
لهفي على القدس في البأساء دامية
نفديك يا قدس أرواحًا وأبدانا"
حقيقة، لن تقف الأمور عند فلسطين، وإنما ستطال في هذا الزمن الرديء كل دولة عربية وفقًا للمخطط الاستعماري الصهيوني للمنطقة، وكلنا في النهاية، أندلس أخرى وأحزان، الغريب أننا لم نقرأ التاريخ، وإن قرأناه لا نفهمه، للأسف الشديد.
فقدنا كمسلمين إرثًا حضاريًا، ومجدًا استمر زهاء ثمانية قرون، واليوم حدث ولا حرج، فنحن نقوم بتجزئة أوطاننا من بغداد إلى الشام، ومن ليبيا إلى السودان، ومن اليمن إلى الصومال، ولم نسهم إلا بتدمير أنفسنا بأيدينا خدمة للاستعمار الصهيوني.
يقينًا، كانت معالينا في حواضر الأندلس وبغداد تاريخًا ذهبيًا عربيًا -إسلاميًا مشهودًا له بالسمو والمكانة في العالم، وإن فقدانه مايزال في وجداننا نبكيه، ونبكي المهانة والمذلة التي تعرض لها أبو عبدالله محمد الثاني عشر، آخر ملوك الأندلس، المعروف بالصغير، وبالإسبانية "الفرخ" تقليلًا، حاكم آخر معاقل الأندلس (إمارة غرناطة) التي غادرها وحاشيته في موكب مهين بإشراف ملك الإفرنج فرديناند وقرينته إيزابيلا، وقف الحشد برهة من الوقت ليلقي نظرته الأخيرة مودعًا "غرناطة"، مجهشًا بالبكاء، وهو المشهد المعروف بـ"زفرة العربي الأخيرة"، وكان ذلك في يوم 2 يناير 1492م، الشديد الصقيع، وأمه الأميرة عائشة الحرّة (تشديد الراء) تقول له: "ابكِ مثل النساء ملكًا مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال".
أما اليوم، فليس هناك ما يغري أن نذرف دموعنا على أحد، وإنما نحزن على سوء أحوالنا منذ أن انحدر تاريخنا خلال ستة قرون من أسوأ إلى الأسوأ، مما ينذر بعواقب وخيمة لمستقبل الأمة، في عالم لا يرحم الضعيف.