من مفارقات تلك الأيام!

اتصل بي من تليفونه الأرضي، إذ لم يكن السيارقد حل في البلاد..
كان في إب وفي قريته تحديدا...
نعم يا استاذ محمد، أين أنت؟
أنا في البلاد

متى عدت من بغداد؟
قبل يومين ولم استطع المرور عليك، لأنني عدت قرفان

قلت: خير
قال هكذا وبتبرم: خذ الجريدة، تولى أمرها، انا ملعون إذا عاد اطلع صنعاء، الجريدة أشرف عليها وخارجني

قلت:
كيف؟ الجريدة تمثل خط البعث وانا بعيد

كان محمد علي مصلح رئيسا لتحرير" الشعب". قال: ديرها كما ترى..

اعتذرت..

نهاية الأسبوع جاء الى صنعاء، جلسنا معا، كان مصلح شبيها بسفيان البرطي براءة وطيبة، في مجلة "النضال" لسفيان، وفي الصفحة الاولى حيث "في هذا العدد"، يكتب سفيان متميزا "بضمن مضامين هذا العدد" ، ولذلك كان مصدقًا أن الناس يناضلون ومخلصين لأحزابهم خاصة تلك التي تدفع!!!

غلاف كتاب الرؤى المتضادة
غلاف كتاب الرؤى المتضادة (محمد الغباري)

بالأمس كنت أقرأ في كتاب محمد الغباري "الرؤى المتضادة"، لاحظت ان اهم حوارين من الحوارات التي أجراها، ذلك الذي مع العميد محمد علي الأكوع صاحب الكتاب المهم "البحث في شخصية الإمام أحمد ورجالات عهده"، والنصف الآخر منه للطبيب الشخصي للإمام وهو ايطالي، عبارة عن وصف لرحلة الإمام العجيبة إلى إيطاليا.

الأكوع كما أعرفه عنه كان غزير المعلومات وللأسف لم يسكبها الى صفحات الكتب، فباستثناء الكتاب الذي ذكرناه، هناك كتاب آخر عن أحداث 55 في تعز الحوبان والتي بسببها أعدم اللقية، ذهب بالكتاب الى وزير الثقافة يومها الرويشان، فطلب منه تغيير صورة الغلاف وهي للإمام راكبا فرسه!!!

رفض الأكوع، سأله الرويشان مستنكرا:

هذا الظاهر انكم تحبوا الإمام، رد الاكوع بطريقته التي عرفت عنه وكان صادقا:

أيوه..
لماذا تحبه؟

لأنه "سَكَعْني" ملطام رمى بالطربوش من على رأسي عشرة أمتار..

رفض الرويشان كما حكى لي العم محمد، أضاف:

اقترضت مبلغ مليون ونصف وطبعت الكتاب بالغلاف الذي حددته...

الحوار الثاني مع طه سيف نعمان البعثي بالصدفة!، والذي تكلم بصدق ونزاهة تحسب له رحمة الله عليه... لم يدر ولم يلف مثل السياسيين والحزبيين المعتقين، بل كان مباشرا صادقا بريئا تلقائيا الى ابعد الحدود، وكتابة اول واخر كتاب كشف عن بعض ما كان يدور في اقبية دار البشائر سيء الذكر.

تذكرت على الفور ما حكاه لي محمد علي مصلح رئيس تحرير" الشعب" التي كانت معبرة عن بعث العراق:

انضممت الى حزب بعث العراق في الظهران بالسعودية، وعند عودتي إلى صنعاء دعيت كرئيس تحرير للشعب بعد عشرين عاما من انضمامي للحزب.

في العاصمة العراقية نزلت في فندق بغداد، وذات ليلة دار رأسي وبدأت أصيح واشتم، سجلني من سجل...

ثاني يوم جاء من يبلغني:

يمثُّل غدا أمام مجلس حسبي في القيادة القومية، ستأتي لك سيارة عند العاشرة صباحا، فدار رأسي مرتين...

ليل ذلك اليوم زادت هواجسي الى درجة التعب، نمت متعبا، وقمت مبكرا نتيجة الهاجس الأكبر:

ماذا قلت؟ وأي عقاب سأعاقب، كانت عقوبة الإعدام في العراق تدوي في رأسي!!!

صباحا ظللت مطلا من نافذة الفندق...

حدثت نفسي هكذا:

إذا أتت مرسيدس سوداء فيا ويلك.

وإذا أتت مرسيدس لون آخر، عاد فيها أخذ ورد...

عند العاشرة اقبلت مرسيدس بيضاء، فداخلني بعض الاطمئنان

ذهبت، وفي القيادة القومية ادخلوني قاعة كبيرة في وسطها طاولة طويلة بيضاوية طويلة جدا..

لأول مرة أرى شبلي العيسمي، كان بجانبه الدكتور قاسم..

مشجعا نفسي، قلت: ممكن حبة سيجارة يا رفاق؟

فُرميت علبة روثمان باتجاهي.

أخذت واحدة وزلقت العلبة باتجاههم..

سألني العيسمي: ماذا قلت يا رفيق؟
لا يوجد حزب في اليمن، بل شوية يرتزقون من العراق.

لو أنكرت فبالتأكيد قد سجلوني..

فقررت الهروب إلى الأمام

نعم، واطلبوا كشف من الدكتور قاسم بأسماء اعضاء الحزب.

لأول مرة - كما قال - يكون العراقيون عقلاء، التفت شبلي العيسمي نحو الدكتور قاسم:

نعم يا رفيق قاسم، سبق وطلبنا ذلك الكشف.

ووجه إليّ الكلام:

ستعود الى صنعاء، وسنستدعيك بعد ان يوافينا الرفيق بالأسماء - هل تذكران الرفيق قاسم لبعض الوقت علق نشاطه وكلف بالإشراف على أفريقيا..

قلت: ولا يهمكم، في أي وقت تحت الأمر.

وصلت إلى مطار صنعاء، ولعنت نفسي إذا أظل في البعث.. لا حزب ولا يحزنون، فلوس وبس!

سأعود إلى القرية.. والجريدة في ذمتك.

قلت: اعتذر

من يومها لم ارى محمد علي مصلح أحد أكثر النفوس نزاهة.