على سَطْحَيْ حَرْب

تكاد القوى الإقليمية والدولية اللاعبة والداعمة للحرب في اليمن منذ إعلانها رسميًا عام 2015، هي نفسها اللاعبة والداعمة لحرب السنوات الست اليمنية 1962-1967 (حرب الملكية الجمهورية)، والتي انطلقت مع إعلان ثورة 1962، طبعًا مع الأخذ في الحسبان تباين الظروف التاريخية وتباين المصالح والأهداف بين القوى الإقليمية والدولية، أو التباين في الأدوار، بخاصة مع إضافة قوى إقليمية جديدة (قطر وتركيا والإمارات) في لعبة الحرب.

 

زَج السكان في مستعمرة كفكاوية

وتكمن المفارقة بين الحربين في أن الحرب الأخيرة حرب تماثلية؛ وُجِّهت نحو السكان؛ فما إن أعلنت الحرب عام 2015 حتى انزاح أكثر من 700 ألف من السكان إلى خارج اليمن (مصر والأردن وتركيا وإثيوبيا، وقليل منهم إلى أوروبا)، بينما انزاح ولجأ أكثر من أربعة ملايين نسمة من السكان داخليًا (داخل اليمن)، وذلك حسب إعلان تقرير مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، لعام 2022.

وإذا ما استثنيت حرب أحداث 13 يناير 1986، التي سجلت نزوحًا ولجوءًا داخليًا متوسط العدد نسبيًا، فإن حرب الست السنوات (الملكية الجمهورية) لم تسجل نزوحًا للسكان ومغادرة منازلهم أو مناطق سكنهم نحو الداخل أو إلى بلدان خارج اليمن.

صحيح أن طابع الحربين (حرب الستينيات وحرب العقد الثاني من الألفية الثانية) لهما صبغة حرب أهلية، إلا أن القوى السياسية المحلية، المتحالفة والمتحاربة في حرب الست السنوات (الملكية الجمهورية)، حتى وهي تتمترس بالقوى الإقليمية والدولية، دعمًا عسكريًا وماليًا، لم تفقد حد الحرب (الهدف) في الفوز بالحرب والغنيمة أيضًا (المال للمقاتل والسلطة للمتصارعين عليها)، وكذلك لم تفقد طموح المجتمع في حياة حديثة ومعاصرة؛ حيث الطموح هو مَحَل الاختلاف في الرأي والنظر في كيفية تحقيق ذات جديدة لليمن؛ أي أن قوى المجتمع السياسي المحلية (المتحالفة والمتحاربة) في الستينيات، لم تفقد حيويتها إلى حد ما؛ ففي حربها القليل من الحياة.

ورغم البؤس والفقر والجهل المتفشي بين السكان حينها، فقد حافظت حرب الست السنوات (حرب الملكية الجمهورية) على المسافة في التعامل مع السكان كسكان فقط دون هوية.

أي أن قواها السياسية المتحالفة والمتصارعة لم تحارب السكان، أو بالأصح لم توجه حربها نحو السكان أو حصارهم كما تفعل ولاتزال القوى السياسية المحلية الحالية (المتحالفة والمتصارعة مع بعضها البعض) في حصار سكان مدينة تعز.

ولئن كانت القوى السياسية اليمنية اليوم شريكة في حرب إقليمية دولية أيضًا مُعْلَنَة منذ 2015، إلا أن حربها منطوية في ثنايا "حرب الشرق الأوسط الجديد" أو "حرب الفوضى الخلاقة" كما ينعتها مُسَميها الغربي الأمريكي الأوروبي؛ دافعًا الإقليمي تركيا وإيران والسعودية، إلى لعبة تَمَثل "صِدَام حرب عوالم إسلامية" في المنطقة العربية، ومنها اليمن .

وفي الوقت نفسه، مُجِرَّة روسيا والصين إليها في لعبة نفوذ قوى عالمية، في صورة صراع تقليدي ثنائي (الغرب في مواجهة الشرق).

لقد وَجَّهَت القوى السياسية اليمنية المتصارعة تعاليم تماثلية هذه الحرب مباشرة نحو السكان؛ في القتل وتفجير المنازل والتهجير المباشر وغير المباشر (مضايقات السكان بدافع اختلاف الهوية)، ودفعهم إلى النزوح تماثليًا؛ بل لاتزال تحشد السكان على اصطفاف هوية مقابل هوية.

حيث يَنْظر منظرو القوى السياسية الإقليمية الدولية المتحاربة، للسكان ككائنات سياسية، وهنا تكمن وظيفة القوى السياسية اليمنية المتصارعة المتحاربة؛ في تحويل السكان إلى لاجئين وعاطلين، أو إلى مصدر جباية إن لم يصبحوا مصدر وقود حرب، والأخطر سجنهم في مستعمرة عقوبة "كفكاوية".

 

مضاعفة ثقوب سوداء

لا غرابة أن تُقيم القوى السياسية اليمنية المتصارعة المتحاربة منذ ما سُمِّيَ "ساحات التغيير" 2011، سجونًا، أو تُحوِّل حيًا سكنيًا كبيرًا إلى سجن (حي مدينة الصالح شرق تعز)، ذلك لأن هذه الحرب مصممة وفق ذُهان أرشيف ذاكرة الصراع السياسي من جانب، ووفق الخبراء والمخبرين من جانب ثانٍ؛ لذا أصبحت الحرب قتلًا بطيئًا للسكان.

لقد تلافت القوى السياسية المحلية الإقدام على عمل محرقة للسكان؛ لكنها اكتفت بجعل "المحرقة" رمزًا ونصبًا (تمثال الولاعة) كتهديد وإرهاب لحرق الآخر؛ إنه استدعاء "نازية البطن"، وهو ما تحاول أن تخْفيه التحالفات السياسية اليمنية المتصارعة والمتحاربة في علاقاتها مع بعضها البعض في هذه الحرب.

المُشْكِل أنه لم يعد هناك إسلام زيدي ولا إسلام شافعي، حتى تبرر "أجهزة بطن الدولة" حربها نحو السكان؛ كما اعتادت في تبرير حروبها التاريخية (ضد المؤولين للقرآن)، وما تبقى هو مخيال "أيديولوجية الدولة الوطنية" تستعمله كي تتحالف مع قوى سياسية طالما نسبت لنفسها أنها القوى الوطنية الوحيدة، لأنها حاربت وتحارب الملكيين والمشايخ والسلاطين جنوبًا وشمالًا؛ غير الوطنيين، حسب أيديولوجيي "الدولة الوطنية القومية اليمنية".

أما إسلام الثقافة العادية (غير المسيس) بين السكان، فقد تعرض للسطو التدريجي من قبل الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين وحلفائهم) منذ سبعينيات القرن الماضي، والباقي منه تكفلت به أجهزة دولة البطن الأمنية، قبل أن تُشْرخ وتتحول إلى أجهزة قوى صراع سياسي تحت الخدمة؛ حيث اتضح هذا الشرْخ عام 2009 (حرب الجوامع في مدينة صنعاء).

وتكفلت الحرب (الدولية والإقليمية والمحلية) بإنهاء ثقافة الإسلام العادي المنتشر بين السكان، محولة إياه إلى أيديولوجية تعمل على جذب شباب الهرم السكاني (الشباب والأولاد) للحرب.

وهنا إحدى مخاطر اللعب في هذه الحرب الإقليمية الدولية المترابط بلعب القوى السياسية اليمنية المتصارعة المتحاربة؛ في أنها تُحَوِّل ما تبقى من حياة ثقافة الدين العادية إلى أيديولوجية؛ وذلك في مسعى يخدم غائية استمرار الحرب في تحقيق مساعيها السياسية سواء للقوى الإقليمية الدولية أو للقوى السياسية اليمنية المتحالفة والمتصارعة.

- فهل القوى السياسية اليمنية بريئة من جعل الحرب موجهة نحو السكان؟.

ليس هناك من براءة في السياسة أو في الحرب، بخاصة كهذه الحرب البائسة في اليمن. ولكن الملاحظ على هذه الحرب أن القائمين عليها (الإقليميين والدوليين) لديهم "غائية عالم" وليس لهم "هدف عالمي".

والقوى السياسية اليمنية المتحالفة والمتصارعة والمتحاربة (من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب) إن لم تكن قوى سلطة ونظام اجتماعي مُتَحوِّل، فهي في مجموعها تُمَثل جماعة قوى سلطة اغتراب عن الذات ووجودها؛ حيث السلطة اغتراب الإنسان عن ذاته (ثقب أسود).

وهذا ما انتبه ونبه له النعمان (أحمد محمد نعمان) حينما رفض ووصف حزبية القوى الأيديولوجية السياسية اليمنية في ستينيات القرن الماضي، بأن حزبية المتحزبين ليست من أجل الذات (اليمن)، فالذات في فكره السياسي جملة أشياء تفوق الأيديولوجية الوطنية القومية للقوى السياسية المتحزبة حينها.

وقد جُرِّد النعمان -كما هو معروف- من الجنسية، لأنه لم يكن فقط مختلفًا في رؤاه ونظرته السياسية؛ بل لأنه كان جسد الآخر.

وكذلك تحالفت القوى السياسية الأيديولوجية (يسارية وقومية) حينها عليه، مع مِحْوَر أيديولوجية المقاومة العربية اليسارية القومية؛ في قتل ابنه محمد أحمد نعمان في بيروت، 1974؛ رغم أنه كان لا يمثل خطرًا كبيرًا وحقيقيًا على السلطة المنقلبة حينها (سلطة الحمدي والقوى المتحالفة معه قبلية كانت أو قومية)، فقد كان اغتياله موجهًا ضد الجسد الآخر داخل كيان "الذات الشمالية الزيدية" (الكيان هنا يعمل كثقب أسود)، وكذلك كان مؤشر تحول عنف المقاومة إلى إرهاب (ثقب أسود).

تعزز وتوسع القوى اليمنية السياسية المتحالفة والمتحاربة في هذه الحرب، ثقوبها السوداء إن لم تُضَاعفها؛ فتتماهى مع "غائية الحرب".

وعلى سبيل المثال، يتضح تكتيك تحالفاتها في أنها لم تتعامل جَديًا مع فكرة الإقاليم، حيث لم تسأل الشكل الجديد كي تنفتح على تَشَكُّلٍ جديد للذات، بل تعاملت معه ككيانات سياسية (ثقب أسود)، فذهبت في تكتيك سياسي لتمد صراعاتها من قلب النظام ومركزه في صنعاء، لتوسعه في بقية المحافظات لا غير، بل قدمت "الأقاليم" مُغْرِية به طموح الشباب، مُقدِّمة إياه كطُعم للعودة إلى الفردوس.

حيث حولت فكرة الأقاليم إلى ثقب أسود، جاعلة من الشباب غير المنظوم في أحزابها السياسية العقائدية، ثقب استقطاب؛ محولة إياهم (الشباب) إلى مليشيات متجولة في الأرياف والمدن، وإلى وقود حرب؛ فالمليشيات ثقب أسود كما الإرهاب والأيديولوجية، وكذلك الاستقطاب أيضًا ثقب أسود يعمل كما قطب الرحى.

يمكن وصف الحرب الجارية في اليمن بأنها "حرب رخوة" في مجتمع شبه متحول اقتصاديًا واجتماعيًا؛ وهذا ما لا يدركه وقود هذه الحرب (الشباب والأولاد الذين يدفعون للحرب).

وخطر هذه التحولات الاقتصادية الاجتماعية للسكان ليس في حسبان القوى اليمنية السياسية المتحالفة المتصارعة، ولا في حسبان منظريها ومحلليها من مثقفين سياسيين وإعلاميين؛ لأنها مندرجة في معمعة تكتيكات سياسية بلا انتباه لصيرورات التحولات، كبيرة كانت أم صغيرة، في الاقتصاد والمجتمع والسكان عمومًا.

إن الحرب على السكان تجري من طرف قوى سياسية متحالفة ومتصارعة لنظام دولة حكم فقد وجهي ذاته التاريخية (نظام الملة الاستبدادية ونظام صراع قوى تحديثية فاقدة التحديث)، مبقية خبرة السنين (الصراع والتكتيك السياسي) في الخدمة؛ لكنه في هذه الحرب ليس بائسًا ورخوًا، بل ثقب أسود يلتهم حياة السكان، كما الحرب ثقب أسود تلتهم الشباب (حيوية الحياة).