ما همش معانا!

المتابع للشأن الوطني تكاد تتملكه الحيرة ليس فقط من أداء من يطلق عليهم ساسة ونخبة (على الرغم من أن هذه النخبة لم تخلق طبيعيًا، ولكن تم استنساخها في كل مرحلة من نفس الجينات السياسية في محيطها أو في العالم، وكذلك تكون كالنغمة النشاز في الجملة الموسيقية)، بل من قدرتهم على التلون والقفز من ضفة سياسية إلى أخرى بدون أي وجل.

ومادمنا قد جئنا على ذكر الموسيقى، فقد استرعى انتباهي ذلك الحضور الكثيف لهؤلاء الساسة السائحين في الأمسية الموسيقية التي نظمها بعض شبابنا الموهوبين في القاهرة.

 

جملة اعتراضية1:

بالطبع لا يمكن إلا أن نفخر بهؤلاء الشباب وموهبتهم وقدرتهم الجميلة على الإبداع، فعلًا لقد تحدوا الحرب والساسة، وتحدوا الغربة والعجز. يجب أن نرفع لهم القبعات، لم تكن هجرتهم بلا معنى، على أنه لا بد لهم من معرفة أن النشيد الوطني يدخل في إطار الرموز الوطنية التي مازال أغلب الناس يجمعون عليها، وبالتالي فالتعامل معه لا يجب أن يفرغه من أثره الوجداني، أما بقية السجل الفني الوطني فهو موضوع يستحق النبش فيه، وإعادة صياغته أوركستراليًا، وتقديمه للعالم كمنتج جاهز معصرن وجذاب.

لماذا لفت انتباهي حضور الساسة هؤلاء؟

حقيقة، لقد بينت لي الصورة معاناة هؤلاء الساسة مع انفصاميتهم المزدوجة شديدة الارتباك. هم عمليًا في حالة انفصام مع الواقع المعاش في البلاد، حيث إن سنوات عجافًا كثيرة من الحرب طحنت البلاد إنسانًا وشجرًا وحجرًا، وهؤلاء يذهبون للحفلات في المسارح الفارهة ذات الكراسي الوثيرة التي تذكرهم بكراسي السلطة التي وصلوها بسيل من الدماء دون أن يرف لهم جفن. ناضرو الوجوه، جلسوا في قاعة ضخمة للغاية مبهرة للناظر آسرة للنظر تأخذ الإنسان في خيال لامتناهِ.

جملة اعتراضية2:

لا أعتقد أن ساستنا الجبارين قد أنبهم ضميرهم في جو الألق في دار الأوبرا المصرية، أنه خلال تربعهم على كراسيهم في وزاراتهم ومؤسساتهم قد فكروا مجرد تفكير عابر في إنشاء مؤسسة ثقافية على طول البلاد وعرضها، لن نقول بحجم دار الأوبرا المصرية، مقارنة بالموارد المالية والبشرية التي بددوها. ولم تبهرهم الإضاءة في دار الأوبرا إلى الحد الذي يجعلهم يشعرون بحجم الجرم الكبير الذي سببوه للبلاد بسبب حالة الظلام الدامس الذي تعيشه البلاد لأنهم لم يهتموا بغير الظلام.

ذلك الشكل الأول لانفصاميتهم، أما الشكل الآخر فهو انفصامهم مع حقيقة أنفسهم، فلم نعرف عن أحد من هؤلاء أنه شخص يحب الثقافة والأدب والفن، أو غاوي موسيقى، ليس لهم سابقة في ذلك أبدًا. الكثير منهم سبق لهم حياة الدراسة في دول كثيرة، منها مصر، لم يأتِ ذكر أحد منهم في أخبار الفن أو الإشارة إلى حضور أحدهم حفلة طربية رائعة لأم كلثوم مثلًا أو لأحمد بن أحمد قاسم، أو أنه قد حضر حفلًا للباليه أو السيمفونيات لتشايكوفسكي أو بتهوفن، فريد أو عبدالحليم.

لم يذكر أحمد قاسم أحدًا من هؤلاء في لقاءاته الكثيرة، لم يذكرهم مثلًا الشاعر الكبير سعيد الشيباني. في جلسة صفاء مع الشاعر الكبير أحمد الجابري، على شاطئ جولد مور، ذات صيف، تحدث كثيرًا عن مصر وعن الفنانين والشعراء، ولم يأتِ على ذكر أحد من هؤلاء.

إن أحدًا من هؤلاء ربما سمع عن المونولوجست فؤاد الشريف أو عبدالله شاكر، ولكن أحدًا منهم لم يحضر أو يسمع مونولوج "هبار"، وربما سمعوا عنه فكرهوا الفنان.

جملة اعتراضية3:

تعوَّد ساستنا حضور بعض الحفلات التي يقيمونها لأنفسهم بالمناسبات، ليس ذلك من أجل المتعة، بل ليس من أجل الفن، وإلا لما كان البلبل عوض أحمد (تمرمط) هذه (المرمطة) في مرضه، وقبله بن سعد والميسري وطه فارع وفيصل وكرامة مرسال وأحمد محفوظ عمر وكثر آخرون. لم يكن صاحب "أماه ما لي أم سواش"، بحاجة لوليمة غداء من أحدهم، كان بحاجة لأن يكون بصحة تعينه على تناول وجبة هانئة.

دونًا عن نخب العالم، تقاتل النخبة السياسة اليمنية من أجل الماضي، بينما يقاتل العالم من أجل المستقبل، يتقاتلون في كل مجال ليحتلوا مكانًا في المستقبل حتى لا يكونوا مطية للآخرين.

في الأردن، اجتمع بعضهم لصياغة إطار عمل (للسلام)، وإذا به ينتج مشروعًا لتأجيج الحرب، لم يأتِ مشروعهم على ذكر السلام، بل على موجبات الحرب، لم يستفيدوا من دروس الماضي. ألا يعلمون أن ما كان سببًا لحرب، لا يمكن اعتماده مرجعًا للسلام؟

يحتاج السلام إلى أذهان نشطة قادرة على إنتاج أفكار تقود نحوه، أو ترسل وميضًا واهنًا، لكنه يدل على الطريق، لكن من أين لأذهان خاملة أن ترسل وهج فكرة! على نفس السياق قدم أحد المناضلين رؤية أو مبادرة كما سماها، لكنها -يا للأسف- تريد إعادة إنتاج الماضي بحذافيره، الواضح أن هناك عدم استيعاب لما يجري على الأرض شمالًا وجنوبًا.

جملة اعتراضية4:

تخوض روسيا وأوكرانيا حربًا ستغير صورة العالم بكل تأكيد، ولكن بصرف النظر عن موقف الدولتين من الحرب نفسها، إلا أنهما بكل تأكيد تخوضانها دفاعًا عن مستقبلهما، فـ"روسيا" ترى نفسها دولة عظمى يهددها الغرب بالاقتراب أكثر من حدودها، وهذا يهدد مستقبلها وحاضرها كدولة عظمى، بينما ترى "أوكرانيا" أن مستقبلها سيكون أفضل مع الناتو، ولذلك تستميت.

نُخبنا تحارب فكرة التغيير، لا تريد تغيير الماضي وأدواته حتى لو اقتضى الأمر العودة إلى ماضي الماضي. لو أن هذه النخب وليدة عملية سياسية طبيعية لتسابقت في صراع برامجي على المستقبل، لكن كيف لها ذلك! لقد أنجبتها أزمات، وولدت بدورها أزمات، ولا تنفك تنتج أزمات.

الأزمات لا تنتج إلا نخبًا وراثية. وراثية بالقرابة، وراثية بالمنطقة، وراثية بالحزب، وراثية بالجماعة، وراثية بالفساد. هي تتوارث نفس القيم. لذلك تنحدر نحو الماضي. كل نخبة لها نقطة في الماضي تريد العودة نحوها. وزير مضى عهده يقول لماذا لا نستفيد من الحرب في أوكرانيا لزراعة الحبوب وتحقيق الاكتفاء الذاتي؟

جملة اعتراضية5:

صباح الخير. أين ستزرع في الرياض أم في الدوحة أم في دبي أم في إسطنبول؟ لقد أكل الكراسي تحتكم وكنتم حينها في البلاد وكل أرض البلاد تحت تصرفكم، فمن منعكم أن تستصلحوها، وأن تزرعوا ليس فقط الحبوب؟

لا تعرف لماذا ساسة اليمن دون غيرهم من الساسة، تتعدد وجوههم وميولهم وولاءاتهم. في السلطة صقور بمخالب شيطانية ومناقير أتوا بها من الجحيم، لا يقبلون حلول الوسط، ولا التراجع عن الأخطاء والخطايا، ولا التسامح، ولا حتى اتباع القواعد التي وضعوها بأنفسهم للعبة السياسية. ولكن بمجرد ما تقذف بهم كراسيهم، وتلعنهم، يتحولون إلى حكماء ووعاظ وكتاكيت ضعيفة، عسى من عودة قريبة. أما أحد (المقطقطين) فقد هددنا ببناء (دار للأوبرا)، لكنه لا يمتلك روح الفنان، لذلك لم ينفذ تهديده. آخر هدد الشعب بسكة للحديد وصيف بارد، ولكن لا تتأرجح القاطرات إلا بسواعد الفولاذ، والفصول لا تأتي إلا بموعدها.

أحد الساسة قال إن قرار الحرب يتخذه الحمقى، أو هكذا قال، جاء هذا القول مواكبًا للحرب في أوكرانيا. لقد تأخرت هذه الحكمة كثيرًا، وخرجت عن سياقها.

ترى أي قرار أكثر حمقًا للحرب، أهو قرار الحرب من أجل المستقبل، أم الحرب من أجل الماضي؟

الخلاصة: الجماعة ما همش معانا.