من دون أدنى نجاة

من دون أدنى نجاة - عناية جابر

ماتوا نياماً، بعد أن عرفوا فزع رؤية جميع الأشياء التي تبقى بعدهم، الأغطية، الفُرش، اللُعب، قناني المياه، الحفاضات، المصاصات، الليل والنجوم وهي ترتجف وتغيم وتتشنّج.
أطفال تكومّوا في موتهم، الذي هو موت العالم، وأمام الأجفان المُسدلة فقد الكون ألقه وذاب.
هل الحب شيء آخر سوى ما يُوقظ؟ ويُذهل؟ يُحزن؟ يُفرح ويُميت؟
أتفرج على الطفل على التلفزيون، مُغبّراً ومُعفّراً، على شاكلة شيء لا حياة فيه، مُنتقصاً، مختزلاً ومنفياً من فراشه، لكي أُلزِم نفسي بالألم من جديد، أشعر بالجرم وأندم على هجرانه.
أنا أعرفك أيها الطفل المُسجَّى، وأمك لا تعرفك أكثر منَّي. ألتهم بنظري صورتك، وأُحدد المطرح الذي كان يمكن أن أُشغله لو كنت جزءا من هذه الصورة. إنني تقريباً، أكون تحت ذلك الغطاء «الكارو» البُني والبيج، أحتضنك الى صدري حتى أؤلمك، أرى نفسي في ليلك، أسجن نفسي في صورتك وفي لغز موتك، وأعرفك كحليب فاتر يسيل من صدري.
إن ما أريده الآن، موتاً صغيراً يضمنا معاً (بزمنه ومنطقه الخاص) أبقى أُمسّد شعرك، بكل الجرح الذي فيَّ، بكل الفخ الذي أوقعني فيه موتك، بكل الهذيان الذي لن ينتهي، ولن يسقط من تلقاء نفسه.
أريد موتاً كموتك وأريد ان أتأكد منه. أريد لي موتاً كاملاً وواضحاً مثل موتك، حرفياً ودون نقص، النموذج المثالي للموت، من دون أدنى نجاة، من دون أدنى تغيير. ما أريده بشغف، الحصول على موتك الخرافي نفسه، أغدو مزقاً مزرّقة وتُفارق شعري رعونة الحياة ويمتلئ فمي بالتراب وعيناي بالحصى الصغيرة.
ان موتنا، أحتضنك وتحتضنني وترقد في صدري يثبت ذاته كقوة في مواجهة قوى اخرى. ما هذه القوى؟ إنها آلاف القوى في العالم التي تُقلل من معنى الطفولة دون ضمانة ولا حماية.
وجهك نائم وفمك منفرج ويدك ممدودة وأريد ان أُلقي نفسي فوقها. لا أنتهي من احتضانك، لا أنتهي من السقام وأختنق خلف جلدي الجاف وأشتاقك وأحلم بك ومن أجلك، يا من بلا إسم ولونك يشع بين الأشواك، أعد لي قلبي مع نبيذ منعش واصنع لي شفاءً خفيفاً.
إنك ستقبل ظلم احتضاني القوي، وتلبث مُصغياً أحكي لك الحكايا بخفة وحنان.
إنك رحلت في الصورة، وإنني أنا التي تبكي، وحدي وفي مسرح ذاتي، وإذا ما خفّت الدموع، أعاود نظرتي إليك تُنعشها. إنني أنا التي يُبكيني صوتي، أهدهدك وأُغنَّي لك لا أكفَّ، لأن صمتي يمحي وجهك، يحرمك من فمك وعينيك. إنني أنا التي أغنَّي لك، قد متُّ أيضاً، ويجعلني الغناء شبحاً مخيفاً، وحنجرة مسحورة.

* عن «السفير» اللبنانية بالاذن من الكاتبة