حينما يتجدد وعد بلفور

عندما كنا على مقاعد الدراسة، كان درس التاريخ العربي المعاصر مملًا كالاستماع هذه الأيام لخطاب عن السلام والوطنية والسيادة والحرية. لقد كان الدرس دائمًا مليئًا بالمآسي التي لم نعرف أبطالها أو تفسيرًا لها، على الدوام كانت المعلومة ناقصة لأهم أركانها. وأكثر من ذلك، لم يكن التاريخ أكثر من حكايات مجزأة عن بعضها لا يربطها ببعضها رابط.

عندما لقنونا موضوع اتفاق سايكس -بيكو لم نعرف لماذا حدث ذلك الاتفاق إلا بعد أن فقدنا الشغف. قال لنا الأستاذ حينها إن فرنسا وبريطانيا أرادتا اقتسام تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية). ولكنا في وقت لاحق من العمر عرفنا أن ليس بريطانيا وفرنسا فقط من كان يرغب في الحصول على نصيب من الميراث. لقد كان كل الحلفاء في الحرب العالمية الأولى يرغبون بالحصول على جزء من التركة، وكان التنافس بين فرنسا وبريطانيا يتمحور حول فلسطين وبلاد الشام ومن يظفر بنصيب الأسد، ورغب آخرون في اقتطاع أجزاء أخرى بعيدة وقريبة.

ثم انتقل الدرس لموضوع وعد بلفور، وقال المقرر إن بريطانيا وعدت اليهود والصهاينة بمنحهم فلسطين، وأن البريطانيين "أعطوا ما لم يملكوا لمن لا يستحق"، وكأن هناك شعبًا آخر يستحق فلسطين غير الفلسطينيين. على أن كل الذين جاؤوا في مناسبات مختلفة للحديث في هذا الموضوع لم يفسروا أبدًا العلاقة بين اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. كما أن ربط هذا الوعد الذي لم نتعرف على نصه إلا متأخرًا، تم ربطه فقط ببريطانيا، وكأنها هي الوحيدة التي أمسكت بكل الخيوط في الحرب العالمية الأولى، وتم إغفال دور بقية الحلفاء كلية.

جاء الوعد البريطاني في خطاب بعثه آرثر بلفور إلى البريطاني ربيب الصهيونية اللورد روتشيلد. جاء فيه:

"وزارة الخارجية

2 نوفمبر 1917م

عزيزي اللورد روتشيلد

يسرني جدًا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:

إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهومًا بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.

وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علمًا بهذا التصريح.

المخلص

آرثر بلفور"

لكن هذا النص لم توجهه الحكومة البريطانية لروتشيلد من وراء ظهر حلفائها، لقد تم عرض النص على الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا. وقد وافقت عليه فرنسا وإيطاليا في 1918، وفي 1919 وافق عليه الرئيس الأمريكي ويلسون بصورة رسمية وعلنية، وانضمت اليابان إلى قائمة مباركي الوعد في نفس العام.

في سان ريمو عقد مؤتمر مجلس قوات الحلفاء، في 25 أبريل 1920، الذي عهد إلى بريطانيا بالذات مهمة الانتداب على فلسطين، مشترطًا أن تضع وعد بلفور حيز التنفيذ الفعلي. وقد نص على ذلك في المادة الثانية من عقد الانتداب. بعد ذلك تحصل هذا العقد على موافقة عصبة الأمم، في 24 يوليو 1922، بدأ تنفيذ الانتداب يوم 29 سبتمبر 1923.

هذه قصة مفهومة ومتكاملة ظاهريًا فحسب. ولكن هناك خلفية الصورة، وهي تتكون من أجزاء وتفاصيل تتعدى الوجه الأول:

في 1916، اتفقت كل بريطانيا وروسيا وفرنسا على تقاسم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية حسب «اتفاق آسيا الصغرى» أو الاسم المستخدم بالعادة، اتفاقية «سايكس -بيكو». تضمن الاتفاق عددًا من المصالح المحمية للفرنسيين في فلسطين. من بين تلك المصالح الجليل الأعلى، بينما تكون القدس تحت وصاية دولية، بحيث يتم تحديد مصيرها بالتشاور بين الحلفاء. ورأت الصهيونية أن ذلك شكل خطرًا محيقًا على هدفها، أو "قاتلًا لنا" بتعبير حاييم وايزمان. ولذلك كثفت الحركة الصهيونية من جولاتها الدبلوماسية المكوكية بين العواصم الأوروبية والفاتيكان، ولم يكن الأمر مقتصرًا على نشاط وايزمان وفريقه فقط.

فقد لعب الصهيوني البولندي ناحوم سوكولوف دورًا أكثر نشاطًا وديناميكية بين إيطاليا والفاتيكان (حيث أكد البابا لسوكولوف أنهم سيكونون جيرانًا طيبين)، وتمخض ذلك الماراثون الدبلوماسي الطويل عن صدور وعد فرنسي في خطاب جول كامبون، الناظر العام لوزارة الخارجية الفرنسية، في 4 يوليو 1917، أي قبل وعد بلفور بخمسة أشهر موجه للأمين العام للمؤتمر الصهيوني العالمي:

«لقد تفضّلتم بتقديم المشروع الذي تكرّسون جهودكم من أجله، والذي يهدف إلى تنمية الاستيطان اليهودي في فلسطين. أنتم تعتبرون أنه، إذا سمحت الظروف بذلك، ومع الحفاظ على استقلال الأماكن المقدسة من ناحية أخرى، سيكون عملًا عادلًا وتعويضًا مستحقًا أن نساعد، ومن خلال حماية دول الحلفاء، على نهضة القومية اليهودية في تلك الأرض التي نُفي منها شعب إسرائيل منذ قرون عديدة.

إن الحكومة الفرنسية، التي دخلت هذه الحرب الحالية للدفاع عن شعب تعرّض لهجوم ظالم، والتي تواصل النضال لتأكيد انتصار الحق على القوة، لا يسعها إلا أن تشعر بالتعاطف مع قضيتكم، التي يرتبط انتصارها بانتصار الحلفاء.

إنه ليسعدني أن أقدم لكم طيًا مثل هذا التأكيد.

جول كامبون»

لا نعرف على وجه التحديد لم تم تجاهل الوعد الفرنسي الذي يسبق البريطاني على الرغم من أنه أكثر خطورة من حيث ما يحمله مضمونه من نفس صهيوني، وكأنه صادر عن المؤتمر الصهيوني نفسه، بتأكيده على ارتباط القومية اليهودية بأرض فلسطين. وهناك رأي مفاده أن الفرنسيين تعمدوا طمس وتجاهل هذا الوعد بعد إدراكهم أنهم وقعوا ضحية خديعة صهيونية -بريطانية، لكن الموقف الفرنسي الحالي مما يجري في غزة بعد "طوفان الأقصى"، والدعوة الفرنسية لبناء تحالف دولي ضد الفلسطينيين، يدحض هذا الرأي.

في مقال له حول وعد بلفور نشر في مجلة "موزاييك" في 5 يونيو 2017، يشرح مارتن كرايمر بالتفصيل طبيعة المفاوضات عديدة المحاور التي قادها سوكولوف مع البريطانيين والفرنسيين والفاتيكان والطليان والأميركيين، كي يحظى وعد بلفور، الذي كانت بريطانيا تتهيأ لإعلانه، بمساندة جميع الحلفاء.

القصة الأساسية الرائجة هي: أن البريطانيين شعروا بأن فرنسا تمثل لهم عقبة كأداء. لذلك عندما وصل لويد جورج إلى منصب رئيس الحكومة البريطانية، كلف مارك سايكس، "أحد طرفي المفاوضات مع الفرنسيين، بإعادة توزيع حصص فلسطين، بما يضمن للإنكليز حصة الأسد". رفض بيكو الموضوع رفضًا قاطعًا، وأصرّ على أن تبقى حصة الفرنسيين مساوية لحصة الإنكليز. «الفرنسيون يشكلون عقبة كبيرة. إنهم يريدون كل سوريا، ومشاركة في القرارات المتعلقة بفلسطين». هذا ما قاله سايكس للحضور من اليهود، حاضًّا إياهم على التواصل مع الفرنسيين «لوضع وجهة نظر اليهود أمامهم، وإقناعهم». بعد نقاش، تم تكليف ناحوم سوكولوف بهذه المهمة.

فعندما قابل سوكولوف الفرنسيين ركز جل همه على «جدوى المشروع الصهيوني، وعلى كونه محركًا حيويًا للرأي العام اليهودي في كل من روسيا والولايات المتحدة». الفرنسيون أيدوا المشروع بصورة عمومية. لكن سوكولوف وبكل ما يملك من الجرأة طلب الموافقة الخطية عليه، وحصل عليها بالفعل في الرسالة التي أوردناها آنفًا. وحسب بعض المؤرخين فقد كانت تلك الرسالة، بالشكل والمضمون، أكثر ملاءمة للمشروع الصهيوني من وعد بلفور ذي اللغة المخفّفة. فقد "ربط الفرنسيون موقفهم بما سموه «العدالة» و«التعويض» واعترفوا بـ«الرابط التاريخي» بين اليهود وفلسطين". كما ربطت الرسالة الصهيونية بقضية الحلفاء، ولم تذكر حقوق غير اليهود من قريب أو بعيد.

ظل حكام العرب على غفلتهم المعهودة مما يجري حولهم، فلم يعلموا بما يجري حول منطقتهم إلا بعد انسحاب روسيا من الحرب في نهاية عام 1917، حيث نشرت الحكومة الروسية الجديدة المعاهدات الدبلوماسية السرية، بما في ذلك اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. بل إن الحكام ركنوا إلى الوعود البريطانية الخداعة وصاروا ضحية لها على الدوام.

في "24 أكتوبر 1915، تم التوصل إلى اتفاق بين شريف مكة الحسين بن علي والمندوب السامي البريطاني في مصر آرثر مكماهون، اعترفت بموجبه بريطانيا العظمى ببروتوكول دمشق وأعربت عن استعدادها للاعتراف باستقلال الدولة العربية المستقبلية"، لكن ذلك الاتفاق ليس له طابع رسمي أو ملزم، وقد تكررت مراسلات مكماهون مع شريف مكة، وهي بالأساس تحمل طابعًا شخصيًا لم تنفع حسينًا في شيء.

في مؤتمر باريس للسلام الذي عقد في 3 يناير 1919، وقع "فيصل بن الحسين" عن الوفد العربي و"حاييم وايزمان" عن الوفد اليهودي، اتفاقًا، يبين حدود المملكة العربية والدولة المستقبلية لليهود. وهكذا أعطى العرب موافقتهم المبدئية على قيام الصهاينة بتشكيل دولتهم. وهكذا اكتسب وعد بلفور الصبغة العربية. أوفى الإنجليز بوعدهم لليهود ولم يفوا للعرب.

اليوم يتجدد وعد بلفور ويتكرر الموقف الاستعماري الغربي من فلسطين. جميعهم لا يرون للفلسطينيين حقًا ليس فقط في وطنهم، بل لا يرون لهم حقًا في الحياة، يشاركهم في ذلك بعضنا للأسف.

هامش: السعي للاستيلاء على فلسطين :كواليس وعد بلفور وإصداراته