محكمة (1)

في غرفة التحرير الواسعة لصحيفة14 أكتوبر، يجلس الأستاذ محمود الحاج في الصدارة، وعلى مقربة منه على مكتبي كنت اقلب عدد اليوم، وهو يقلب العدد ايضًا. أتسائل: ايش نكتب لعدد بكرة؟ شؤون السياسة تجلب الهم والغم، ولها محاذيرها! هل نكتب على اليابان؟ يضحك محمود ضحكته المميزة في كركرة متقطعة تبعث على السرور، اقلب الجريدة،

لفت نظري إعلان قضائي عن اب يتبرأ من ابنه، ويعلن قراره القانوني على الناس صحفيًا لابد ان وراء الإعلان قضية، لعلها تستحق التناول والتحقيق؟ ما رأيك يا أستاذ؟ قال جوابًا في سؤال:" فيبك طافة؟" "اذن لابد أن اتحقق من الأمر، هل نستأذن الأستاذ سالم زين؟" ايهيييه.. وابوي وابوي.. تمتحنني! بس ليه تمتحنني يا حبيبي؟ كم شكا البين قلبي.. لوكان يغنيها فلابد ان مزاجه طروبًا. قال محمود:" خلاص روح أنت، وإذا سال انا بافهمه.
ايدن جاراج، او جيريش ان شئتم، أشهر وأقدم سمكري سيارات، بعد السبراتي طبعاً. يقع في الطرف الأعلى لشارع ابان، قدام مبنى مركز تلفونات عدن، يمتد على ناحية شارعين. البهرة والحدادين.. كبير.. كبير جداً.. وفوقه يمتد من البناء الحجري سقف خشبي نحو الشارع، تقف تحته سيارات تنتظر دورها للسمكرة، قدم السيارة الى داخل، قدمها من التريق. قال:" ذلك فلان يعقوب صاحب اعلان التبرؤ من ابنه، وصاحب جيريش السمكرة ايدن جاراج" واقترب نحوي وهو يقول:" باتشوف شغلي، أحسن سمكرة باتشكرني عليها. قلت له: "ليس هذا غرض مجيئي! وشرحت له، فرحب بامتنان (نحيف الجسم، ابيضاني، شعره الناعم منكوش تخللته شعيرات بيضاء متطفلة) "مادام كذا اهلا وسهلا بك.. تعال انزل باندخل الحفيص داخل" قال بترحاب! ونادى أحد صبيانه: "روح ياليد هات لنا شاهي من عند كشر.. فيسع.. تشتي حاجة بارد مع الشاي؟" شكرته! الشاي كفاية، ودخلنا الحفيص(على قولته) وبدأنا تقليب مواجعه، وانذلح في الكلام بتواصل متقن: "هذا وليد فالتوه.. روفل مش حق شغل وبلا تربية، ولا اشتي عاد اعرفه، ولا اشوف صورته قدامي، عمري ماحبيته من يوم ما خلق في الدنيا، وكمان امه ماحبيتيش ابداً ابدين.
وواصل في اندفاع مدهش مغلف بالألم: "وبعدين تشتي تعرف الصراحة؟ با اقول لك على كل شيء.. انا قدنا شاكك في كل شيء من اليوم الأول!!."وتوقف.. وانتظرت احترامًا لمشاعره وعواطفه، لكن توقفه طال وطال انتظاري بدوري، كان هذا التوقف أطول من توقف سيدنا نوح بعد الطوفان، حين بعث بالغراب ليستكشف له حال الارض.. لو في الغراب خير مافات على الصياد، يقول مثلنا العامي، والغراب لا صوته يستحب، ولا لحمه يستأكل، فلم يرجع لسيدنا نوح، فارسل حمامة بيضاء تستطلع ماجرى للأرض وترجع ورجعت الحمامة ببشرى خير وبين منقاريها غصن زيتون.
ونطق فلان يعقوب اخيرًا.. قال وكأنه يهمس: "باقول لك كل شيء! بس ذا كلام سر بيني وبينك!" قول خير ايش كلام سر ياعم؟ "هذي محاورة صحفية للنشر في الجريدة، وزيما قرأوا اعلان تبرئك من ابنك با يقرأوا كمان السبب، انتبه!" قل لي بس الحاجات اللي انت موافق على نشرها وعلم الناس بها! فهمت؟؟ هز راسه بالموافقة وتلعثم قليلاً! ثم استقر رايه على الانذلاح بالسر المكنون، قال: "بصراحة! انا اشك انه الليد هذا ابني! انه يعني من صلبي!
كنت شاكك.. من البداية ومازلت شاكك، الليد هذا مش ابني! وانا مش ابوه! هاذي هي الحكاية بصراحة.. وسبب نشري قرار المحكمة في الجريدة زيما طلبت المحكمة.
انت عارف معنى ذا الكلام ايش ياعم يعقوب؟ هذا كلام خطير جداً خطير! يعني كذا بالعدني ذي فضيحة عليك!! كيف تشوف؟ ننشر؟ باتتحمل النتيجة؟
قال: "ايوه.. انشر.. انا مش خايف من ابو أحد هذي هي الحقيقة، انشرها زي ما قلتها لك ولا تهتم من ابو اي حد.
ورجعت الجريدة، وتم النشر، وشنشني شن شني شن شني شن. مرت ايام قليلة، وماكنت اتوقع ان يجيئنا رد الفعل من هناك، من وراء البحر، من دجيبوتي.