جيلبرت الفلسطيني وماما كارو

مادس جيلبرت (76) طبيب تخدير نرويجي عمل في النرويج وعضو في حزب يساري نرويجي. صار واحدا من أشهر المدافعين عن الشعب الفلسطيني لكأنه الرئيس الحقيقي لفلسطين لا ذلك المتكوم في رام الله. وعرف منذ 3 اسابيع في العالم باعتباره ابلغ من يدحض الرواية الاسرائيلية بشأن استخدام المستشفيات في غزة مقارا للمقاومة.

مادس جيلبرت - طبيب نرويجي في غزة
مادس جيلبرت - طبيب نرويجي في غزة (شبكات تواصل)

يذكرني جيلبيرت كلما ظهر في شاشة فضائية عربية او دولية بسيدة عظيمة قابلتها في اريتريا في صيف 2001 اشتهرت عند جرحى ومعاقي حرب الاستقلال في اسمرا باسم "ماما كارو".

كانت ماما كارو من أكثر الشخصيات التي أثرت على حياتي المهنية كصحفي. لاحظت في بلدة "نقفة"، شمال اريتريا بالقرب من الحدود مع شرق السودان، إنني أسجل في مفكرة صغيرة تفاصيل لا يكترث بها الاخرون. بينما لاحظت، أنا، أن كل سكان البلدة، صغارا وكبارا من كل الفئات العمرية، يعرفونها. قلت في نفسي: يا لها من محظوظة هذه النرويجية! بلدة في منطقة نائية وصلناها بعد رحلة شاقة في مروحية عسكرية، كل سكانها يعرفونها!

في رحلة عودتنا الى اسمرا بالطائرة جلست الى جوارها- أو لعلها جلست- وباغتتني باسمة: لقد كتبت أشياء كثيرة بمفكرتك الصغيرة! قبل أن تسأل: أنت صحفي؟ أومأت براسي.

كانت ماما كارو صاحبة مكانة لدى الاريتريين جراء عملها الانساني منذ السبعينات في شرق السودان وشمال شرق اريتريا. وقد اقترحت علي، إذا كنت مهتما، زيارة كامب (مخيم) معاقي الحروب في اسمرا. وافقت فورا. حددت لي موعد اللقاء الساعة ال3 عصرا بعد يومين.

في الموعد المضروب كانت تنتظرني في بوابة الكامب ومعها شخص ليتولى الترجمة. وقد أمضيت 3 ساعات في الكامب مدونا الكثير من القصص والتجارب. (نشرت بعض هذه القصص في تحقيق نشرته جريدة "الأسبوع" حيث كنت أعمل، في يونيو 2001).

***

قضيت كصحفي، 3 ساعات شائقة في الكامب. عندما دخلت هنجر (صالة واسعة في الكامب) الالعاب كنت قد صرت صديق سكان الكامب، وقد لعبت تنس الطاولة مع بعضهم فيما ماما كارو لا تخفي سعادتها فالصحفي الذي دخل الكامب رفقتها صار رفيق الضحايا!

كانت الساعة نقترب من المغيب. كنت اتبادل الحديث مع اخرين في حلقة بين حلقات عديدة.

في غمرة أحاديث الساكنين والساكنات وبعض الضيوف اكتشفت ان 3 طاولات في الصالة تم تجهيزها لتناول العشاء المتواضع، وقد بادر رفاق الحلقة الى دعوتي لمشاركتهم وجبة العشاء!

كان علي ان أجد عذرا قويا للاعتذار تحت الحاحهم المتكرر. اعتذرت بزعم انني تناولت وجبة الغدا قبيل زيارتي الكامب.

كان المكان بائسا. وكانت توقعاتي ان العشاء خاص بجرحى ومعاقين مهملين في معسكر، ولست مضطرا لتناوله لأسباب عدة بينها عدم ارتياحي لرائحته.

كذلك اعتذرت!

استسلم المضيفون المحبون لاعتذاري. تنفست الصعداء وبحثت عن ماما كارو كي استأذنها، فالتقطت عيناي منظرا عجيبا- على الأقل لحظتها!- فـ"ماما كارو" الانسانة القادمة من الدولة التي تتصدر قائمة الدول في تقارير التنمية البشرية ومؤشرات الرفاهية والسعادة، كانت تتشارك وجبة العشاء مع أصدقائها وتأكل بشهية مفتوحة على الآخر!

انتظرتها حتى انتهت من العشاء. ثم ودعنا أصدقاءنا وصديقاتنا الطيبين، ورافقتني هي الى خارج الكامب. ودعتني كأنما أنا أحد أبنائها في نقفة او في كامب الجرحى. كنت مغمور بالجميل نحوها، وغادرتها ومعي حزمة من الدروس التي تعلمتها بالتجريب من رفقة هذه "الأم العظيمة".

لا أجمل صورتها فهي في البوم في حقيبة في منزلي في صنعاء، ولا عنوانها.

لست أعلم إذا كانت حية ما تزال أم ان الله توفاها. لكني متأكد أنها حية في الاف البيوت في اسمرا وغيرها من المدن والبلدات في شرق افريقيا وفي أرجاء الأرض. وهذه الأيام تزورني مرارا إذ اتابع الجهود النرويجية لوقف "المذابح" الصهيونية في فلسطين، واستمع بإعجاب الى تصريحات الطبيب الانسان مادس جيلبرت عن مستشفيات غزة!