المزهر الحزين

أبوبكر سالم، أحمد قاسم، لطفي أمان، علي ناصر، محمد مرشد ناجي
أبوبكر سالم، أحمد قاسم، لطفي أمان، علي ناصر، محمد مرشد ناجي (صور أرشيفية)

في شارع حسن علي الذي كان يتصدر في كريتر ويعج بكل ألوان الحياة، تجارة، صحافة، معابد، ومكاتب، ووكالات، البر صفير، كما كتب على جداره الابيض العالي، وهو وكالة لبنانية -أظنها ألبرت- وسقط من كتابة الجدار حرف ت..

يواجه دار اليقظة للطباعة والنشر المقابل لمطبعة الحظ بعد نزولك من مقهى فارع الاشهر في عدن.. تصدر من دار اليقظة -او تطبع فيه- صحف عديدة منها اليقظة، وصوت الجنوب، والمستقبل، والعروبة، ومجلة شهرية يرأسها عدنان كامل.. كان من بداية خطواتي في الصحافة صفحة في المستقبل حظيت بتحريرها اسبوعياً، وبالمجان طبعاً.. وكان صديقي حسين السيد محمد موظفاً شهرياً هناك مع الاستاذ عبدالقادر امين او امين عبدالقادر مدير الدار..

من تلك الدار تصدر صحيفة العروبة لصالح مالكها الوزير عقبة.. وكنا نسخر بانها تطبع 500 نسخة في الاسبوع وتطرحها للبيع.. فيرجع منها501 نسخة لان لا أحد يقرأها.. بما فيهم رئيس تحريرها التافه المسمى مرعي--واظنه موجود الان وغير اسمه فأصبح الكثيري -- ولانه لا يقرأ جريدته فقد سمعنا وزيره مالك الجريدة يهاتفه قائلاً: ماذا فعلت يا اهبل يا ابن الاهبل؟

يرجع سبب الاتصال الى ان محمد قاسم مثنى، مساهم كتابات فنيه معروف وقتها كتب نقداً لاذعاً هاجم فيه القامة الادبية والشعرية الكبيرة الاستاذ لطفي جعفر امان.. وكعادته لم يقرأ رئيس التحرير جريدته ولا اطلع على ما نشر فيها.. كذلك الزميل عبدالقادر خضر الذي كان اسمه يظهر على الصحيفة كسكرتير تحرير..

اخذ الاستاذ لطفي الجريدة وهو في ذروة غضب عارمة الى صاحب الجريدة وهو يردد: من يكون.. من يكون هذا النكرة الذي يهاجمني في جريدتك؟؟ وكان يكررها بالانجليزية قائلاً: who's he.. Who is he؟ ويشير بسكين قطع المظاريف الى ما نشر ويردد غاضباً: هو از هي؟

كان الاستاذ لطفي شديد الحساسية، مفرط الغضب تجاه ما ينشر ضده في الصحافة خاصة بنفس اسلوب مثنى الذي كررها بعد ذلك مرة اخرى عندنا في مجلة "الفنون" التي كنت ارأس تحريرها، وهاجم الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، وأفقده صوابه... لكن تلك قصة اخرى ليس هنا مكانها.

عصر يوم بهيج اخذني الزميل عبدالقادر خضر الى بيت المزهر الحزين في القطيع الاستاذ لطفي جعفر امان.. وكانت تلك المرة الاولى التي اراه فيها.. كان عنده في البيت أحمد قاسم وعوده.. وجاء بعد ذلك أبوبكر سالم بلفقيه.. وكانت جلسة عامرة.. يتوسط الجلسة تلفزيون اسود وابيض لا يظهر من الصور غير تشابكات وتقاطعات علق عليها لطفي بقوله: سيرياليزم!!

في جلسته على كنبة في ركن الغرفة كانت بجانبه ثلاجة صندوقية صغيرة بداخلها قوارير جوني ووكر يختلس منها بين الحين والحين رشفات من كاس كريستال.. تجرأت وقلت: اليس الوقت باكراً على هذا يا استاذ؟؟ فرفع صوته بالقول على طريقة روجر مور: انها ثلاث ساعات منذ الغداء.. وهذا كثير.. ومتأخر.. ثم -- سأل مجدداً -- قلت لي من انت..؟

ذكرت له اسمي وتكرم الخضر بتقديمي بلطف.. فقال: اهلاً بك! سالت أحمد قاسم وكنت قد عرفته من قبل: وانت يا فنان؟ قال: انا شغلي بعدين.. بالليل ونظرت الى بلفقيه الذي قال: اما انا فقد سبقت.. حصتي هي قبل الغدا.. ابرتيف يعني.. ودارت أحاديث شتى لا اول لها ولا اخر ولا معنى لها.. تخللتها نفحات رائقة من العزف على اوتار أحمد قاسم.




كان لطفي قد كتب اغنية جميلة (مش مصدق) اختصم للحصول عليها كل من أحمد قاسم ومحمد مرشد ناجي، وكانت النتيجة ان قام كل منهما بتلحينها بطريقته وكانت من بين ما أبدعه كل منهما..

قبل المغادرة شجعني الخضر على طلب صور من الشاعر الكبير الذي رحب بكرم ونادى زوجته: يا فوز.. فوووز.. ستعطيك ما تشاء من الصور فهي كثيرة.. حتى بينها صور بلفقيه وعبدالعال في لبنان.. وصور لأحمد قاسم.. وحصلت على صور كانت أجمل ما زينت به البوم صوري الذي فقد بالكامل.. صور لطفي.. وبلفقيه.. وصورة لأحمد قاسم.

ونشر وقتها في موضوعات ما تسنى نشرة من الصور.. وبقيت الاصول في البومي المنحوس الذي فقد وفيه أجمل ما جمعت من صور العمر الجميل.

اشيع ان أحمد قاسم قال: انا الذي اشهرت لطفي امان.. كان ذلك في الثمانينات.. وأقمنا ندوة في اتحاد الادباء فرع عدن لإحياء ذكرى شاعر المزهر الحزين الذي احزن فراقه قلوبنا.. ودعينا أحمد قاسم.. تصدر الندوة الاستاذ علوي عبدالله طاهر الذي الف كتاباً عن لطفي امان.. وواجهنا أحمد قاسم بالاتهام عما قاله.. فشرح انه لم يقصد ما تم تأويله من كلامه واعتذر.. وقال:

انا انما قصدت بانني ساعدت على انتشار اشعار لطفي بين الناس باغنياتي.

في المرة الثانية التي رأيت فيها المزهر الحزين كانت في الطابق الاعلى لمستشفى الجمهورية في القسم الخاص الذي كانت اجنحته البرايفيت مخصصه لكبار الناس.. كنا ثلاثة، عبدالقادر خضر وحسين السيد وانا.. وعندما علم الرئيس علي ناصر محمد بمرض الشاعر الكبير.. وكان وزيراً للدفاع حينها.. رتب له رحلة علاجية الى مصر في مستشفى الجيش المصري بالمعادي.. وقد بعثت له برسالة دعاء بالشفاء الى مصر.. وكانت دهشتي الكبرى حين تلقيت منه رداً جوابياً اسعدني.. وبلغت الصديق الاستاذ علي امان، رئيس تحرير مجلة انغام برد الاستاذ.. وقال لي انهم بصدد اصدار عدد خاص عن لطفي واخذ مني الرسالة ونشرها في انغام..

رتب الصديق عبدالقادر سعيد هادي (امهوب) مدير برامج الاذاعة مسيرة احياء ذكرى الشاعر العظيم، وتوجهنا حاملين صوره وشموع بيد كل منا صوب بيته في حي القطيع.. في المسيرة كان بجانبي الاذاعي الكبير الاستاذ عبدالحميد سلام.. قال لي انه سجل مع لطفي مقابلة امتدت اكثر من ساعة.. ثم قال بأسى: هل تعلم ماذا فعلوا بالمقابلة؟ حذفوا صوتي بمونتاج غير محكم من المقابلة.. واستبدلوه بصوت مذيع غيري!! وكان صادقاً فيما قال فقد كان من المغضوب عليهم وقتها.. ونقل من الاذاعة الى المكتبة الجامعية!

Hوصى لطفي جعفر امان، المناهض للاستعمار في اشعاره ان نضع شمعة على قبره في مدافن القطيع، ويقع قبره الاول على يسار مدخل المقبرة.. في كل عام في موعد ذكرى الاستقلال المجيد، كل يوم من ايام 30 نوفمبر.. ذهب الجسد.. لكن روح المزهر الحزين مازالت تعيش بيننا