حكاية الحاج أحمد اليمني في غزة

ظهرت عندي بالصدفة مقابلة سجلت منذ عامين في إحدى القنوات، مع معمر يمني يبلغ عمره ١٢٥ سنة تقريبًا، واسمه أحمد بدر، يعيش في غزة منذ عام ١٩٣٦، ويتمتع (ما شاء الله) بذاكرة حديدية.

الحاج أحمد اليمني
المعمر اليمني الحاج أحمدبدر حسن

ومن إعجابي بالمقابلة وروح الحاج أحمد وكلامه، بحثت عن اسمه، ووجدت عدة مقابلات معه في عدة قنوات.
الحاج أحمد يعرف بنفسه: أنا أحمد بدر حسن، من اليمن الشمالي، كنت أعمل في عدن، وحين جاء موسم الحج ذهبت للحج، ثم رافقت مجموعة من الحجاج لزيارة المدينة المنورة، وبعد ذلك اقترح بعضهم أن (نقدس الحج) بزيارة بيت المقدس.. وذهبنا سيرًا على الأقدام إلى فلسطين، كنا نتحرك في الليل لأن السفر في النهار مرهق.
وحين وصلنا بيت المقدس وصلينا فيه، وجدنا هناك مناوشات ومعارك بين العرب من جهة والاستعمار البريطاني واليهود من جهة أخرى؛ فاشترينا من أموالنا الخاصة أسلحة، وشاركنا في المعارك إلى جانب إخوتنا العرب..
كنا مجموعة عددها حوالي خمسون رجلًا من الحجازيين واليمنيين والمغاربة، واستشهد منا البعض، والبعض عاد لبلده بعد فترة، لأن المدة طالت، وتم أسري من الصهاينة مع مجموعة من المقاتلين بسبب بعض الخونة الذين أخبروا اليهود عن مكان اختبائنا.
وخرجت من الأسر في صفقة تبادل للأسرى بين اليهود والجيش المصري.
يقول الحاج حسن: لم نكن نتوقع أن تطول مدة المعارك مع اليهود، لأن العرب أكثر منهم، ولكن كانت تحدث خيانات، وبعض الأنظمة كانت خاضعة للاستعمار أو لمجلس الأمن أو لأمريكا.
يحكي الحاج أحمد أنه تزوج في يافا، وحين كانت زوجته حاملًا فجر اليهود المنزل بالنساء والأطفال. وهكذا كانوا يفعلون..
ثم تزوج مرة أخرى، وله من الأبناء خمسة ذكور وثلاث بنات، ومن الأحفاد خمسون حفيدًا وحفيدة.
أحد أبنائه ذهب لليمن، وعاش في صنعاء، وتزوج، وعمل مديرًا في جامعة صنعاء، وتوفي هناك، والأربعة الباقون يعيشون معه في فلسطين، ولكنهم جميعًا أسرى لدى الاحتلال الصهيوني لأنهم مقاومون له.
أمنية حياة الحاج أحمد أن يعود شابًا من جديد كي يقاوم الاحتلال الصهيوني من جديد، وأن يرى فلسطين حرة.
حكاية الحاج حسن أخذتني لعالم آخر وزمن أجمل!
تخيلت رحلته من اليمن لمكة ثم لفلسطين سيرًا على الأقدام، بلا جواز سفر ولا فيزا!
يمني من حجة، يعمل في عدن، ويتنقل في الوطن العربي متى شاء وكيفما شاء.
هذا هو الوضع الطبيعي، وهو الأصل!
فنحن شعب يتحدث لغة واحدة، والأغلبية الساحقة مسلمة، وعاداتنا متقاربة، ونعيش في نفس المنطقة.
لأن الحاج أحمد ورفاقه كانوا يشعرون أن كل الوطن العربي "وطنهم"، كانوا يشعرون بمسؤولية تلقائية تجاه الوطن العربي كله، ولهذا فقد بادروا بكل بساطة وبلا تفكير، واشتروا السلاح من مالهم الخاص، وشاركوا إلى جانب إخوتهم الفلسطينيين في معاركهم ضد الاستعمار والصهاينة.
وتأملت كم هو محزن وضعنا اليوم!
لماذا وكيف أصبحنا هكذا؟
ليست المشكلة فقط الحدود والجوازات والفيز والعراقيل والقوانين والجنسيات المتعددة، بل المشكلة هي الأصوات المشبوهة التي تحاول تعميق الفرقة والغربة بين العرب والمسلمين!
فليس نادرًا اليوم أن يتبجح أحدهم فيقول: أنا جنسيتي كذا، ولا يهمني إلا مصلحة وطني فقط!
وهذه العبارات كانت مبرر التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يحتل أرضًا عربية، ويسفك دماء إخوتنا العرب هناك، ويعذبهم، ويحول حياتهم لجحيم!
هذا الاحتلال الذي يمنعنا كمسلمين أو كمسيحيين من زيارة بيت المقدس، وهو مكان مقدس ومبارك بالنسبة لنا جميعًا.
وهذه العبارات التي من نوع: "أنا لا أهتم إلا بوطني وحدودي"، ليست مبررًا فقط للتخلي عن فلسطين والفلسطينيين، بل هي أرضية لما هو أسوأ!
والحقيقة أنها عبارات غريبة وثقافة مفتعلة، فنحن شعوب مازالت مرتبطة ببعضها، بالرغم من كل محاولات التمزيق، وما يجمعنا مازال أقوى مما يفرقنا، والدليل هو غضب الشعوب العربية على غزة، وحزنهم وتعاطفهم، وشعورهم بالمسؤولية، ومطالبتهم بالمشاركة في مقاومة إجرام وصلف الكيان الصهيوني.
أتساءل: هل سيأتي زمن يعود فيه الوطن العربي كما كان؟
تعيش وكل الأرض العربية مفتوحة لك، تزورها أو تعمل فيها، تستمع بالتنوع المناخي والتضاريس والخيرات المتنوعة.
ندافع عن بعضنا، نقف مع بعضنا، يهابنا الأعداء ولا يتجرؤون على احتلالنا أو الاعتداء علينا.
أم أن القادم أسوأ؟
ومشاريع التفتيت داخل كل وطن مازالت مستمرة، وخطرها لا يكمن في أنها ستجعلنا أكثر ضعفًا فقط، بل لأنها تخلق أسبابًا جديدة للصراعات والحروب في ما بيننا!
ومن جهة أخرى، تجعل الكيان الصهيوني هو الدولة الوحيدة القوية والمستقرة والموحدة في المنطقة، ولو نجحت مشاريع التمزيق -لا سمح الله- أكثر، فسنتحول جميعًا إلى جماعات صغيرة متناحرة تتوسل رضا الكيان الصهيوني الأقوى في المنطقة، وتتنافس في ما بينها على من سيخدمه بإخلاص أكثر!
نعوذ بالله من هذا المصير، ونسأله الفرج والنجاة والخير لنا وللأجيال القادمة.
وختامًا، أعود للحاج اليمني أحمد بدر الذي يعيش في غزة؛ وأتساءل: ترى هل نجا الحاج أحمد من وحشية الصهاينة وقصفهم لغزة؟
أم أنه من ضمن آلاف الضحايا الأبرياء الذين ارتقوا شهداء في الأيام الماضية؟