سقوط آخر أقنعة النظام العالمي

لعل أبرز ما كشفته أحداث غزة الفلسطينية الأخيرة، هو هذا الذي تبدى في عمق تفاقم أزمة النظام الدولي الراهن الذي بدا غير مؤتمن تمامًا على الحفاظ على توازن العلاقات الدولية، وضبط قواعد السلم العالمي. بل وما من وجه للمغالاة إن ذهبنا إلى أنه أضحى ينسف قواعد وأساسيات القانون الدولي برمتها.

على أن ما هو جدير بالإشارة إليه هنا، هو أن أزمة النظام العالمي بوجه عام لم تبدأ الآن وحسب، بل ربما بدأت منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، وتحديدًا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي الذي أفسح المجال واسعًا لاستحواذ القطب الأميركي الواحد على تسيير وإدارة دفة النظام العالمي، منفردًا وفقًا لمصالحه، التي تقنعت مرة بالعولمة، بكل مندرجاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومرة باختراع ما تسمى المنظمات غير الحكومية التي أخذت تزاحم الأمم المتحدة، في ما تقوم، وعلى نحو محتال وغير مرئي بالقضم من صلاحيات هيئات منظمة الأمم المتحدة المختلفة، وتجييرها لمصلحة تثبيت دعائم نفوذ نظام القطب الواحد.
لن ندخل في تفاصيل هذا المسار الغريب، وهو يتغلغل على مرأى ومسمع من باقي أركان النظام العالمي الأضعف، والتي لزمت في الغالب إما الصمت على مضض بذريعة إعادة بناء مقوماتها الذاتية، وإما المناورات الخجولة كيما تدرأ عن نفسها ما وسعها من تفادي الآثار السلبية، وانكفأت تاركة مجمل أزمات العالم وقضاياه الأمنية الكبرى رهن الأحادية القطبية وخطرها المتنامي على العالم بأسره.
على أية حال، لسنا بمعرض الغرق في تفاصيل ما جرى من معطيات، على أهميتها، إذ يكفي التوقف عند مترتبات أحداث غزة الفلسطينية الأخيرة على وجه التحديد، وما تكشفه من تفاقم في أزمة النظام العالمي الراهن للعلاقات الدولية. ولئن كانت هذه بطبيعة الحال امتدادًا لمحطات الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني الإسرائيلي بخاصة، فإن ما سبق من محطاته المتمثلة في الحروب العديدة على غزة، إنما كانت تتم في إطار الهيمنة التامة للقطبية الأحادية المنحازة لإسرائيل المقترنة بالفراغ العربي. بينما تجري المحطة الأخيرة هذه في ظل توافر معطيات جديدة على الساحة الدولية، لعل منها تأثيرات نشوء منظمة شانغهاي، ثم والأهم نشوء معاهدة بريكس التي شكلت مضيًا متقدمُا نحو خلخلة دعائم نظام القطبية الأحادية، على طريق بزوغ نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب لعله يعيد درجة من التوازن في العلاقات الدولية. وهنا من غير المنطقي تجاهل تداعيات الأزمة الأوكرانية على مجمل السياق العام للأحداث في هذا المضمار.
أحداث طوفان الأقصى التي اشتعلت منذ السابع من أكتوبر الحالي، أظهرت ليس فقط تفاقم الانقسام في مجلس الأمن الدولي، لا بل نستطيع القول معها إن معظم الشعوب المحبة للحرية، بما في ذلك شعوب الدول المنحازة لإسرائيل، تماهت بتحركاتها وتضامنها أكثر فأكثر، إلى جانب الفريق الذي يمثل حركة التغير نحو إصلاح ميزان النظام العالمي للعلاقات الدولية.
ومن هنا..
يمكن القول بأن أبرز مؤشرات الساحة الدولية تكمن في مؤشرين أساسين هما:
تداعيات الأزمة الأوكرانية.
تداعيات أحداث غزة التي استدعت جوانب من سخونة الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن العربي بوجهه المقاوم خارج النظام العربي الرسمي الذي مازال يرسف في قيود القطب الأميركي الواحد. وبرغم ذلك فإن انبعاث الصراع العربي الإسرائيلي يعيد الشرق الأوسط إلى واجهة بؤر الصراعات الدولية.
فهل يتمكن العرب يا ترى من اغتنام الفرصة لاستعادة بعض من أوراق قوتهم التي كانوا رموا بها واحدة إثر أخرى؟!
سؤال في غاية الأهمية والحساسية تضعه اليوم أحداث غزة الفلسطينية بكل قوة أمام أجندات العرب الدبلوماسية والسياسية!