محبة الآخر شرط وجود في الذاكرة الإبراهيمية

"إنما الناس سُطور كُتِبَت لكن بِماء"
"خليل جبران"

-------------------------------------------------------

في وقت متأخر، يكتشف "جاك دريدا"، صاحب كتابة "فكر التفكيك"، أن اسمه الأول هو "يونس" Jacques.
يَقرأ "دريدا" هذا الأثر، للذاكرة التوحيدية، في اسمه، بلغة تفكيك "لامُبالٍ" في تأخره؛ فالتفكيك ككتابة الشعر: فكر "لامبالٍ".

ونحن في ذاكرة ثقافة أنفسنا العميقة (الشعر)، لسنا سوى ذرات ورياح وغبار منثور، وأسماؤنا تحيا في جملة شعر؛ حيث العالم في مخيلة ثقافتنا لوح قصيدة على جدار الشعر.
فما بال ثقافتنا العربية المعاصرة فاقدة المحبة؛ رغم مُبالَاة خطاب منابرها، الثقافية والدينية، بتذكيرنا صباح مساء بهويتنا الإيمانية والعروبية؟
ألسنا في الذاكرة الإبراهيمية التوحيدية غير أسماء مستحيلة، حيث المستحيل أفق كتابة إبراهيمية بامتياز؟
لقد غدا التوحيدي الإبراهيمي المعاصر، وبخاصة المسلم "هوويًا" مختزلًا ذاكرة اسم الذات بالهوية.
وإذا ما اقتبسنا تعبير وصف "نيتشه" لإنسان الحداثة "الإنسان الأخير"، ووصفنا به المسلمين الحاليين "المسلم الأخير"؛ فإن هذا الوصف يوصف كائنًا قد انحط جوهر وجوده، وأصبح كيانًا "هوويًا"، أي كائنًا عدميًا "بَسْ على الطريقة الإسلامية".
ولو سحبنا مزحة "بَسْ" من تهكمها، وأبقينا عبثها الساخر من النفس؛ وقتها السخرية جادة لا تضاهيها ظرافة الذات ولا ظرافة الآخر؛ لأننا لا نسخر إلا من الموجود، وكائن الهوية، كائن عدمي، وموجود كيانه في كائن الحداثة.
فقط على "المسلم الأخير" أن يجد المسلك والطريق لأن يصبح جزءًا من عدمية اسم التاريخ الحديث "بَسْ في حداثة إسلامية".
وهذا معناه، أن يكف "المسلم الأخير" من حَرَج الوصف "المسلم الإرهابي"، فهذا التوصيف، لكائن "المسلم الحالي"، وليس للإسلام ولا لتاريخ الإسلام، لأن علينا أن نأخذ لطافة المصطلح، كي نتلطف به كائن "المسلم الأخير"، ونضع سياقه الجزئي، ضمن كائن موجود، في تاريخ الحداثة، وليس خاصًا فقط بهذا المسلم الموجود حاليًا، لأن الإرهاب ظاهرة حديثة (في تاريخ الحداثة)، وقد سبق في استخدامه الأوروبي الحديث (كائن الحداثة) قبل أن يوصف به "المسلم الأخير" (كائن العدمية الهووية).
وهذا معناه أن المسلم الحالي وعدميته مرهونان على ذمة الحداثة، "بَسْ" تأخرت عدميته الحديثة عن أقرانه "المسيحي واليهودي الحديثين" فقط، واللذين قَرَرا، حسب تعبير "فتحي المسكيني"، أن يُخرِجاه ويطرداه من العائلة التوحيدية الحديثة.
المهم هنا، لكائن الهوية العدمي، ليس التهرب من الوصف أو التنديد به، وإنما هو التفكير، في كيف أن يصبح عدميًا حقيقيًا داخل الحداثة، وجزءًا من العائلة عائلة الحداثة الإبراهيمية"؟
حيث لا يمكن أن يصبح "المسلم الأخير" كائنًا عدميًا حقيقيًا بلا حداثة، أي عليه أن يكون حداثيًا أولًا، وهنا لا بد أن يكتشف طريقًا إلى جزئيته أو قسمته (هويته) داخل فكر ذاكرة الحداثة، عليه أن يكتشف اسم الحداثة بمفاهيم فكرها المتعددة في اسم ذاته، وذاكرتها الحية، كي يحارب إلغاءه من قبل عائلته التوحيدية الحديثة.
بتعبير سؤال آخر، كيف لكائن "المسلم الأخير" أن ينبثق داخل تاريخ الحداثة في وجود عدمي حقيقي؟
بكلمات أخرى، على "المسلم الأخير" أن يجد سبيلًا إلى قسمته الحداثية داخل إرث الحداثة التوحيدية، بكلماته الأخرى للحداثة، ضمن وفي فكر الحداثة.
وساعتها يُسَمي حداثته حداثة إسلامية (مواطنة، حقوق، حرية... الخ من مفاهيم الحداثة). وعندها يستطيع أن يفرض "عدمية الاسم" (اسمه)، وكذلك يفرض مشاركته في تاريخ العدمية الإبراهيمية الحديثة، التي تنبأ "نيتشه" بطول زمنها في التاريخ.
"المسلم الأخير" دون حداثة ليس سوى "كبش تضحية ساذج" (فزاعة) وألعوبة هوية بلا حياة؛ لأن الهوية ليس لها من أهمية إلا في ظلها (حماسة الوهم)؛ في تحميس جدارة الذات على مغامرتها في الزمن، وهي تنفصل عنه، فالهوية ليست اسمًا، لأن الاسم لا هوية له (عدمي)، وهذا لا يعنى أن الاسم بلا معنى أو ذاكرة: أي بلا حياة.
إن صراخ "الهوية الإيمانية" و"صراخ القضية" على لسان المسلم، وبخاصة العربي، والتهليل من قبل المثقف، مطلوب أوروبي غربي، لتأكيد إلغاء حق عائلي موجود ومنسوب في الذاكرة التوحيدية.
فالصراخ والبكاء على "ضياع القضية" الفلسطينية، والتنديد بالتطبيع، وقتل الآخر في ذواتنا؛ مطلوب "هووي" غربي أوروبي أولًا وأخيرًا، لتأبيد تمركز ذات أوروبية حديثة لاغية الآخر.
وهذا ما يجمع سياسة إيران -في تواطؤ صامت- (فارس) بأوروبا؛ فليست سياسة "إيران" الحالية سوى تواطؤ ذات آرية؛ فالإيرانيون الحاليون -ولو لديهم صبغة دينية توحيدية- متواطئون مع "الأمريكان" والأوروبيين (شرقيين أو غربيين) في أكل الآخر، ولو كان هناك اختلاف فهو اختلاف في تواطؤ الدرجة.
حيث يُؤكل الآخر بفاه ذات سياسية متواطئة، في العراق واليمن، وفلسطين ولبنان، فالتواطؤ الآري الذاتي الصامت، هو من يقتل الآخر؛ اليهودي الإسرائيلي، واليهودي اليمني، ويهجره، والعربي الفلسطيني، والسوري، واليمني العربي، ويهجره.
لا تعمل السياسة المعاصرة إلا على الإفراغ، حيث "صراخ الهوية" تهيئة مطلوب، لإفراغنا من الحياة..
لإفراغنا حياة ذواتنا من ماء المحبة؛ فلا محبة دون آخر، ولا تقام ذات دون آخر.
يختزل خطاب الهوية للمسلم المعاصر، ثقافة الذات بهوية يعلو صراخها، مفتقدًا طبيعة صراخ الشجن؛ فالشجن فيه ذات مُحِبَّة للآخر، حيث يتساقط الدمع حال فقدان الآخر، وهنا منبع الإنسانية الإبراهيمية: حيث الإنسان دمعة إله.
وفي حال شوق المُحِب، تسقط قَطْرةُ دمع! إنها من دمع الكتابة: حيث الكاتب خَجَل دمعة مُحِب.
والمحبة شرط وجود في الذاكرة الإبراهيمية، وكذلك كتابتها؛ حيث تكتب ألواح الذاكرة بماء المحبة (ماء الكتابة)، كما يكتب "جبران": "إنما الناس سُطور كُتِبَت لكن بِماء".