يد الله الحانية

من يتذكر الفيلم العربي "أيوب"؟ الذي أدى فيه الفنان عمر الشريف دور رجل أعمال ثري في قمة النجاح والانشغال بشركاته لدرجة إهماله لكل شيء آخر في الحياة، بما فيها أبناؤه وعلاقته بزوجته وأصدقائه وهواياته، ثم تباغته "جلطة" تجعله حبيس كرسي متحرك.

وكيف تتغير حياته كليًا وأفكاره وأولوياته واهتماماته وأصدقاؤه وعلاقاته، وكيف أعاد كل حساباته خلال حياته، ليكتشف أنه كان (مغفلًا)، بينما كان يعتقد أنه الأذكى!

المرض حالة إنسانية نمر بها جميعًا، وهو جزء أصيل من الحياة.

احيانًا يبدو كأن المرض يد حانية من الله تعيدنا برفق إلى مساراتنا السوية كي نعيد حساباتنا قبل ان تنتهي الفرصة.

أو قد يكون المرض بمثابة "قرصة إذن" تذكرنا بضعفنا وقلة حيلتنا، وتعيدنا لحجمنا الحقيقي أمام أنفسنا، فنتواضع.

فالمرض يداهم الغني والفقير والصغير والكبير والضعيف والقوي، ومن يعيش في أكثر الدول تقدمًا أو أشدها تخلفًا.

امتحان المرض يصيب السعيد والحزين أيضًا!

لا أنسى قصة تلك المرأة التي أعرف، والتي يؤكد الجميع أنها كانت في غاية الجمال والحيوية، وكانت تعيش بسعادة في دولة متقدمة جدًا، مع أطفالها وزوجها الشاب المحب لها، والناجح والمحظوظ.

وفجأة، وبلا سابق إنذار، وبلا أي سبب أو تفسير، تصاب بفيروس خطير في الدماغ! نزع من حياتها كل السعادة والحيوية والجمال، وحوَّلها إلى قعيدة حزينة.

تضحك أمي حين تتذكر كيف كنت في طفولتي المبكرة لا أتقبل أبدًا أن أصاب بالزكام.

وكيف كنت أكرر السؤال بعصبية: ليش؟! ليش جا لي الزكام أصلًا!

وكانت تنصحني أن أشرب الدواء، وأدعو الله أنا وهي أن يشفيني، وندعوه فعلًا، ونقرأ الفاتحة، ثم بعد أن أنتظر لحظات أجرب جودة التنفس، ثم أصيح وأبكي بغيظ: ما قد شفانيش؟ ليش؟

تقول أمي إنها كانت تصاب بنوبة ضحك في هذا الموقف!

وكانت تقول لي: يا سكينة تأدبي مع الله، وتعلمي الصبر. ولكنني لم أكن أستوعب كلامها بالطبع في حينه.

كانت والدي أيضًا ينصحني: عدم تقبلك لفكرة أن المرض لا سبب له دائمًا، وعصبيتك ترهقك وتضعف مقاومتك أكثر، تقبيله مثلنا وسيمر بسلاسة.

ثم تعددت تجاربي مع المرض (بطبيعة الحال).

العام الماضي مثلًا أصبت بحساسية في القصبة الهوائية، استمر العلاج لشهور، والحمد لله أنه لم يتحول إلى التهاب رئوي.

ومع أن الطبيب قال إن عندي حساسية من وبر الحيوانات، إلا أن هذا على ما يبدو ليس صحيحًا. فمازال القط معي وإلى جانبي.. والحمد لله.

وفي نهاية 2014 أصبت بحساسية فظيعة فجأة (ارتبط ظهورها بضغوط نفسية)، كنت لا أتوقف عن العطس والزكام والدموع الشديدة، حتى إن شكل عيوني تغير من غزارة الالتهاب والدموع.

وبدت الحياة مستحيلة بتلك الطريقة!

كنت أشرب أكياسًا من الأدوية... وكان رد الأطباء حينها: حساسية لا علاج لها! تكيفي معها.

أتذكر والدي حينها كتب منشورًا يطلب الدعاء لي: "أسألكم دعواتكم لأمي وابنتي سكينة بالشفاء".

والحمد لله رحمة الله ودعوات والدتي ووالدي شفتني فجأة بلا سبب.

وقبلها بسنوات كثيرة في 2002، أصابتني حساسية مفاجئة لشهور في الجلد، كنت إذا لمست أي صابون تتشقق يدي حتى ينزف الدم منها!

أخبرني الطبيب بأن حساسيتي لا شفاء منها!

كان هناك سبب نفسي أيضًا حينها.

بمجرد زواله زالت الحساسية تمامًا في نفس اليوم.

من تجاربي الصعبة مع المرض أيضًا حين أصيبت ابنتي الصغرى -كان عمرها ست سنوات- بالتهاب بسيط، والمختبرات اختلطت النتائج عليهم، وأرسلوا لنا نتيجة فحوص رجل سبعيني حالته خطرة ومشارف على الموت بسبب مرض خطير في نفس مكان التهاب ابنتي!

أتذكر رد فعل ابن عمتي العزيز (الدكتور علي المفتي)، وصدمته ورعبه من الفحوص التي أرسلتها له للاطلاع كما ألجأ إليه عادة.

وابتهالي ليلتها لله بكل جوارحي وصلاتي ودعائي وبكائي، أن يلطف بها.

ثم في صباح اليوم التالي، يفتح زوجي هاتفة (الذي أغلقه بعد استلام نتيجة الفحص)، ليجد اتصالات ورسائل اعتذار وتوضيح عديدة من المختبر؛ توضح أنهم (أخطأوا)، وأرسلوا لنا نتيجة مريض آخر!

قبلها بسنوات في أحد المستشفيات حولوا فحوص ابنتي الوسطى إلى دكتور "الأورام". لن أنسى وأنا أمشي معها ومع والدها إلى طبيب الأورام هذا، كيف كان الطريق داخل المستشفى طويلًا طويلًا، وكيف كانت قدماي كأنهما عاجزتان عن حملي، وكنت أتخبط فعليًا!

ولكن الحمد لله اتضح أنهم عرضوا النتائج عليه لسبب غير مقلق.

وقبلها لن أنسى أول مرض أصيبت به ابنتي الأولى (الحمى القرمزية)، وكيف اسودت الدنيا في وجهي وانهرت بالبكاء عليها وأنا قلقة وخائفة، وكيف ابتسمت وهونت علي والدة زوجي، وقالت لي ما معناه: تماسكي يا سكينة عادك إلا بادئة المشوار، المرض عادة الأطفال كي تقوى مناعتهم، والله يعينك ويكتب أجرك، الأطفال هكذا يمرضون ويتعافون بفضل الله.

وهناك مواقف بالطبع قد نكون ضحايا لطمع وجشع بعض الأطباء والمستشفيات (خاصة في ما تسمى دول العالم الثالث) نتيجة الفساد.

ومنها موقف حدث معي في مستوصف متخصص في العيون؛ أخبروني وزوجي قبل عشرين عامًا أنني إن لم أدخل غرفة العمليات خلال ساعات، فسأفقد بصري (لا سمح الله). ولولا أن زوجي أصر أن نحصل على نسخة من التقرير أولًا لعرضها على طبيب آخر، ورفضهم لهذا هو ما جعلنا نشك فيهم.

فلا يعلم إلا الله ما الذي كان سيحدث لي لو وثقنا بهم، وأجريت عملية لعيوني دون حاجة.

ثم بعدها بسنوات، ولكن هذه المرة مع طبيب محترم جدًا (رحمه الله).. لم يكن يخدعنا، ولكنه رأى في جهاز الكشف الخاص أنني بحاجة أن أدخل غرفة العمليات خلال ساعات أيضًا، لأن الزائدة الدودية انفجرت فعلًا!

وعدنا للبيت، وبقيت أصلي وأدعو الله أن يلطف بي.

فاختفى الألم وكل الأعراض فجأة، ولم نعد للطبيب هذا إلا بعد سنوات لسبب آخر.

أنا لم أشك دقيقة في صدق هذا الطبيب، لكنني أثق في استجابة الله لدعواتي يومها.

وغيرها من المواقف التي نواجه فيها المرض دون سبب واضح، وربما نقترب وأحباءنا من شبح الموت أو الفواجع الأخرى، ونتجاوز كل شيء أيضًا دون سبب واضح إلا لطف الله.

هذا لا يعني طبعًا أن نهمل صحتنا ونترك الأمر لله دون اهتمام وبذل جهد ومراعاة لما ينفعنا، وتجنبًا لما يضرنا.

وهنا تحضرني كلمات والدي التي كان يكررها علينا: الجسم والصحة أمانة لدى الإنسان، وعليه أن يصون الأمانة، ويحفظها، لأن الله سيسأله عنها.

ولكن حتى من يحافظ على صحته بكل إخلاص، أظن أنه لا بد أن يباغته مرض ما (جسدي أو نفسي) في مرحلة ما من حياته.

وقد يشفى وينجو منه، وقد لا يفعل.

فأجسامنا لم تخلق للخلود، هي مثل الأرض وكل ما ومن عليها من كائنات حية متغيرة لها عمر افتراضي معين.

بينما الدور والقلاع والحصون والقصور التي يصنعها الإنسان عمرها أطول من عمره، وقد لا يطالها تغيير حقيقي وجوهري.

ولكن مع هذا، فالمرض ليس دائمًا انعكاسًا لسوء الصحة أو نهاية العمر الافتراضي للجسم وهلاكه، بل هو أحيانًا درس للبشر، ليثبت لهم مدى عجز الأطباء والعلم حتى عن فهم ما الذي يسبب المرض، وما الذي يزيله أحيانًا؟!

فضلًا عن القدرة على التحكم به.

هذا كما قلت سابقًا: درس أو قرصة أذن أو تنبيه كي نراجع أنفسنا وأولوياتنا وأفكارنا.

وقد يكون الدرس هذا عامًا كالأوبئة العامة، وقد يكون خاصًا لكل فرد على حدة. والمرض أيضًا يصفه بعض المتخصصين في علم النفس أو علوم الطاقة، بأنه "خلل" في نفسية الإنسان أو طاقته.

والخلل فيهما يرتبط بأفكارنا ومشاعرنا؛ فالسخط وقلة الصبر والحسد والحقد واليأس والتشاؤم وسوء الظن والكبر والغضب والطمع والقلق والحزن والرفض، وتجاهل النعم الحقيقية التي نتمتع بها، والتركيز فقط على ما ينقصنا وما نريده، وقد يكون ما نريده بشدة أشياء لا نحتاجها فعلًا، ولكن تخدعنا ثقافة الاستهلاك وتوهمنا، فنتصور أننا في أشد الحاجة لها! وأن قيمتنا وسعادتنا لن تكتمل إلا بتلك الماركة وذلك الجهاز، ومستوى معين من الرفاهية.

كل هذا بلا شك إذا كان يشكل ضغطًا وتعاسة، فسيكون سببًا لخلل في الطاقة، ويجعلنا أضعف.

بعكس الرضا والتقبل والطمأنينة والتسامح والصبر والأمل والمحبة وحسن الظن، وتقدير كل النعم الحقيقية في حياتنا من صحة وعائلة وأصدقاء واستقرار، والثقة في أنفسنا وتقييمها وتقدير احتياجاتنا ورغباتنا بشكل منطقي وواقعي، لا كما يقرره لنا من يريد تحويلنا إلى "عبيد يفنون أعمارهم في استهلاك ما يقرره هو أن يبيعه لهم".

كذلك الثقة بالله وبعدله وبعوضه في الدنيا أو في الآخرة، والإيمان برحمته وبلقائه وبعوضه، والتذكر أن كل اللحظات السعيدة والحزينة ستمر ولن نتوقف عندها... كل هذا يحمينا من السقوط في جحيم السخط والمرض النفسي أو الجسدي، ويحفظ توازن الروح، ويجعلها حاضرة مساندة لنا إذا ابتلينا بمرض ما، ويهوّن علينا كل الآلام والمخاوف، ونتماسك، وقد ينجينا الله تمامًا بلطفه وكرمه.

فلا يوجد ما يعجز الله أبدًا، لن أنسى قصة الدكتور مصطفى محمود التي نشرها في أحد كتبه، يروي حين أصيب بمرض خطير في معدته (وقد كان طبيبًا)، وكان لا بد من إجراء جراحة للمعدة؛ ولكنه دخل في خلوة تعبدية لأيام، ودعوات وصلوات واستغفار بثقة في الله جل جلاله.

وفعلًا استجاب له الله، وزال المرض! وتغيرت نتيجة فحوصاته بلا دواء!

وهذا ما حدث أيضًا لجدي والد أمي (العلامة محمد المنصور)، حيث كان من المفروض أن يجري عملية ضرورية لإحدى عينيه في فرنسا، في الثمانينيات؛ ولكنه ليلة العملية بقي يذكر الله طوال الليل، ويدعوه، وفوجئوا في اليوم التالي أن شيئًا ما تغير في العين، ولم يعد بحاجة للعملية!

سأله الطبيب الفرنسي: ما الذي فعلته؟!

أجاب: دعوت الله!

رد الطبيب: الله حق فرنسا ليس مثل الله حق اليمن!

وفي هذا يرد الدكتور مصطفى محمود على من لا يستوعب ما يفعله الدعاء، و قدرته على تغيير الواقع؛ إنه يمكننا أن نشبه الأمر بالجراحة بالليزر مثلًا، أو بإصلاح مكوك عالق في الفضاء من خلال إرسال حروف وأرقام بجهاز الحاسوب!

وبقى ان نتذكر ان المرض يصيب الطيب والشرير، ويستجيب الله دعوات الطيب والشرير كذلك- إن أراد- كما أستجاب دعوة إبليس له بأن يكون من المنظرين ،وقد لا يستجيب للطيبين أو يتاخر والدليل معاناة نبي الله أيوب الطويلة مع المرض،وإمتحان بعض الأنبياء والصالحين بالأمراض المختلفة ووفاتهم بها .

الحياة رحلة خاصة بكل فرد وتفاصيلها كذلك خاصة به.

وربما للحديث بقية...