هاتفني الجاوي قائلا: اخترناك غيابيا!

هذا عمر الجاوي يا سعيد.. الا تعرفه؟ اشار صديقي حسين السيد نحو الجاوي، وصافحناه.. كان يجلس فوق قعادة من قعايد الحبال.. وبجانبه ترتص رزم القات من كل نوع.. حدث ذلك في كريتر بالقطيع خلف مبنى بنك جرندليز الضخم (المركزي الآن) سنة1965م.

هناك كان مقر شركة القات العدنية التي كان الجاوي يعمل فيها، ذلك الوسيم القصير بالمقطب(المعوز) كان من رجال اليمن الذين سيكون لهم شأن فيما يسجل التاريخ. بعد ذلك اللقاء بزمن سألته:- هل جدودك من جاوة وسنغافورة خيرة البلدان؟... ابتسم اولاً ثم ضحك ثم تكلم.. قال: يا ابن ابوك "كان يطيب له ان يحدثني هكذا"، نحن من سادة الوهط ال السقاف.. وفي لحج كلها اخلاط من البشر لكثرتهم تطلق عليهم القاب تميزهم.. هذا المصري، وذاك الصنعاني، وهذا البصري.. وهكذا.. فهمت يا غشيم؟

عمر الجاوي (صورة أرشيفية متداولة)
عمر الجاوي (صورة أرشيفية متداولة)

وفهمت انا الغشيم الذي اعتاد على سخريات الجاوي.. تخرج الجاوي من موسكو، وألف كتاباً عند تخرجه.. في اول السبعينيات، ولأنه كان أكثر زملائه ديناميكية تولى التحضير لقيام اتحاد الادباء والكتاب.. وساعده الايمن الاقوى كان د. عبدالرحمن عبدالله ابراهيم.. اكتمل نصابهم وقرروا اشهار اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين.. وكنت انا بعيدا عن كل تلك الاجواء باستثناء قصص قليلة نشرت لي في صحف ومجلات..

كنت مناوباً في عملي بصحيفة 14 أكتوبر حين رن جرس التلفون وكلمني عمر الجاوي، وسأل عن رئيس التحرير او مدير التحرير ولم يكن هناك احد سواي في تلك الليلة المباركة:- اسمع يا ابن ابوك.. عندي خبر هام نريد نشره، ولكم السبق في الحصول عليه.. فهمتني؟ اجبته باني المناوب المسؤول عن الاخبار الليلة وانتظر منه الخبر. وأرسل لي الخبر.. وكان طويلاً.. طويلاً جداً.. فيه وقائع الجلسة الختامية وأسماء القيادة المنتخبة كاملة كمؤسسين.. وكان فيهم سالم باجميل، وكثير من أسماء المعروفين في السلطة وقتها.. ومن العجيب الغريب ان اسمي كذلك كان من بين الأسماء!! سالت الجاوي بالتلفون كيف وانا لم احضر.. اجاب بأنهم اختاروني غيابياً! ونشرت الكيس برباطه كما يقول المثل.

في اليوم التالي طلبني رئيس التحرير وعلى محياه غضب رحيم وقال: ماذا فعلت؟؟ وكان الامر يتعلق بما نشرته عن اشهار اتحاد الادباء وأسماء قيادته المعلنة ومؤسسيه.. قال: هيا هب لعند مقبل في اللجنة العامة شعه طلبك.. علي صالح عباد، واسمه الكودي (مقبل) مثلت امامه فبادرني بالقول:- اشتي افهم منك.. شي معانا هنا حزب ثاني غير الجبهة القومية؟؟

طبعاً لا كان جوابي.. اذن ما معنى هذا؟؟ وقال كلاماً كثيراً فيه من التوبيخ ما فيه، ومن النصح والتوجيه الكثير..

واجمالاً كان مقبل عطوفاً رحيماً.. وهو من أسرة موسرة في الدرجاج.. تبرعت بالكثير من املاكها واراضيها للفقراء-وهذه حقيقة قد لا يعرفها الكثيرون - وكنت أحب الدرجاج عاطفياً فقد كانت لنا ارض وعزبة في نواحيها.. المهم قال لي: خلاص رح انت وخلي رئيس التحرير يجيني قبل نهاية الدوام.

وخاض عمر الجاوي، بطل من ابطال حصار السبعين في صنعاء نضالاً عنيداً باتحاد الادباء والكتاب الذي كان حدثاً استثنائياً في بلادنا لأنه المنظمة الوحيدة والأهم في التاريخ التي جمعت ادباء وكتاب الدولتين ولأول مره في وحدة واحدة رفع عنها حصار التقسيم، وفتحت لها حدود الدولتين للتنقل بلا جوازات ولا ممنوعات طوال أيام ذلك الاتحاد المجيدة.

بلغ عمر الجاوي غايات مجد لم يبلغها سواه طوال ايام حياته.. ولكن الاستاذ الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة، وهو من أكثر المحبين للجاوي يحب التنكيت والسخرية من اي شيء.. وعلى اي شيء.. وإذا لم يجد احداً ينكت عليه.. نكت على نفسه.. ذات مرة ناداني وانتحى بي جانباً وقال لي:- باقول لك بحاجة على الجاوي، زعيمنا هذا.. لكن براس ابوك لا تقول هذا الكلام لأحد، مع علمي بأنك أفشى الناس للأسرار.. فوعدته.. وطلب مني ان احلف فلم افعل ومع ذلك تكلم وقال:-

شوف.. عمر الجاوي هذا ايام كان مسكيناً دخل الينا نحن الادباء وقال يا اخواني انتو الآباء!! واندمج معنا وصار يقول: يا اخواني نحن الادباء.. ولما تمكن اكثر اصبح يقول:

يا اخواني.. أنا وأنتم يا حضرات الادباء..

وكركر الجرادة بضحكته الحبيبة المميزة!!

... وفهمت انا سخريته على سجيتها.. لكني اشهد الله اني ما سمعت ولا مرة عمر الجاوي يتمدح بالقول: انا، وانا، وهكذا.. ولا يحب النرجسية في حياته، ويتأفف منها ومن اصحابها!

كنت اريد اكمال مسيرتنا مع الجاوي، وتأسيس حزبنا.. ومحاولة اغتياله امام دار الايام الغراء والتي ذهب ضحيتها شهيدنا الحريبي الذي أعلن أول شهداء الحرية والديموقراطية!! ولعلنا نلتقي مرة اخرى.. أو لم يكن عمر الجاوي هو القائل: لن يهنا لي نوم الا عندما نحرر نجران وجيزان وعسير.