سيد الفتنة

> منصور هائل
ما هي الرسائل والإشارات التي تطلقها فكرة الجثة المجهولة، المشنوقة، التي شوهدت صباح الاثنين الماضي معلقة على شجرة في منطقة «بلة» بمديرية ردفان وعليها ورقة بيضاء كتبت فوقها كلمة: «دحباشي»! والرسائل التي أطلقتها جثث القتلى الثلاثة القبيطة «الدحابشة» التي عثر عليها الأهالي فجر الجمعة 10 يوليو في منطقة «دلة» بنفس المديرية؟
وبقطع النظر عن الأصداء الكابوسية التي يمكن أن يثور غبارها ورمادها في ذاكرة القابضين على جمار الدلالة الشاهدة على ارتباط ما يحدث اليوم مع ما كان بالأمس في "بلة" التي اقترن اسمها بأزمنة التصفيات والسحل، و«دلة» المقترنة بالإفقار والخواء والتوحش وانعدام الأمان.
بقطع النظر عن خط اللهب والدم الذي يصل بين «دلة»، و«بلة»، يمكن الاستطراد في السؤال: وما هي الإشارات التي يمكن التقاطها من مذبحة الأجنبيات الثلاث اللواتي قتلن في صعدة وعثر على جثثهن الأهالي فجر الجمعة 12 يونيو الماضي؟
ويكاد يتلاشى وينطمس الفارق بين الجريمة التي أودت بحياة أفراد العائلة الثلاثة الذين قتلوا في ردفان، والجريمة التي أودت بحياة الأجنبيات الثلاث غير "الدحباشيات" في صعدة.
ولئن كانت الجريمة في ردفان على تماس مباشر مع الحراك الجنوبي في معقله الهائج، فقد كانت الجريمة في صعدة على تماس مع حركة الحوثيين في معقلها العتيد، وكان من الوارد أن تستثمر عناصر الالتباس والتماس إلى مستوى التطرف وإلى أقصى درجة.
وتهورت مصادر السلطة الرسمية في إصدار الأحكام المتسرعة عن "بصمة" الحوثيين في صعدة، وعن أصابع الحراك في ردفان. وجاءت الردود من هنا وهناك لتلتقي على خط اتهام السلطة وتحميلها كامل المسؤولية عن كل ما حدث.
وفي الأثناء كان الجميع يستفظعون ويستبشعون ما حدث ويستنكرون، ويتعجبون من أن تكون اليمن مسرحاً لتلك الارتكابات الفظيعة و«الغريبة على شعبنا وثقافته وتقاليده وأعرافه».
ويتوافقون ويلتقون هنا على خط واحد، وهو خط الرجعة الذي يلم الجميع ويمكنهم من الاستناد إلى بعضهم، كإسناد ظهورهم إلى جدار واحد: الفتنة، وتعليق كل تلك الجرائم على مشجب القوى البرانية والشيطانية، والترحم علينا، نحن الحملان، أحفاد الشعب الطفل البريء.
هكذا يجري تعويم المسؤولية، والشاطر هو من يصبح سيد «الفتنة» وسيد الذاكرة والنسيان، الخمود والغليان، وزعيم "الفتنة". وهكذا تتخالط صور الضحايا بالجلادين، ويكف «الجميع» عن مساءلة السبب في تفجير اللهب ونواعير الدماء الممتدة من ردفان إلى صعدة، وحيثيات هذه الفظاعات التي تعزف على وتر أكثر الحروب قذارة: الحرب على الهوية، ولحنها ليس بغريب على الناجين من محرقة صنعاء في أغسطس 1968، ومحرقة يناير 1986، وعلى الملفوحين بسعيرها اليوم في صعدة وردفان وغير مكان.
والمضحك أن «الجميع» يلعب بورقة «الفتنة» بما هي ابتلاء وامتحان واختبار، محنة، فضيحة، كفر، قتل، وسواس -حسب «لسان العرب»- وإحراق ل:«الجميع».
يستريح هذا «الجميع» لهذا التلخيص السهل الذي يعفيه من البحث عن أسباب هذا الانحدار والانحطاط والعنف والدم النازف من غير توقف، المتغلغل في كل مكان، السائل بغير ما انتظام، المعدي بالمزيد من العنف والإفناء والمحق!
ولما كان الامتثال للكارثة والاستعداد لتحملها وتلقيها أسوأ من أي كارثة على الإطلاق، فإن احتمالات التشظي والانمحاق ستظل مفتوحة ولن تنقطع بفعل مبادرة جسورة تفضح صورة «الملك العريان» وتقطع دابر استمرار إدارة شؤون اليمن بأساليب ما قبل وما دون الدولة وب: الدس، الوقيعة، الكيد والعصبيات والعصابات والصدمات، والأهوال والدماء المسفوكة في الشوارع والخواء المنظم المترافق مع الهدم المنظم.
mansorhaelMail