قصف الذاكرة

"الحروب مثلها مثل الثورات، تنتج عوالم جديدة ومهنًا خاصة كمهرب الأسلحة وتاجر العملة والقواد والواشي/ البصاص ومتعقب الأثر والإعلامي المرتزق والقناص وصانع المتفجرات والقاتل المأجور، وتنشط فيها الاغتيالات وحتى صناعة أفلام البورنو، وعندما تنتهي الحروب أو الثورات تفيض تلك الأراضي بمهن جديدة غير تلك المهن، ويظهر أصحاب مهارات خاصة كنازعي الألغام والمقاولين من ناحية، ونخبة جديدة ووجوه سياسية وإعلامية وثقافية من ناحية أخرى، تحاول أن تفتك مواقع الوجوه التي خسرت الحرب أو كسبت الثورة أو تأقلمت معها، وكما تتمخض الثورات والحروب وتلد وجوهًا جديدة لا سابق للناس بمعرفتها، تظهر أيضًا مهن وأعمال وتجارة جديدة تبدو في البداية غريبة، ثم تكتسب شرعيتها من خلال الواقع الذي أنتجها، فتنسحب الغرابة لصالح المصلحة والضرورة". كمال الرياحي

 

... كمال الرياحي، كاتب وروائي تونسي متميز، مهم وملهم، اضطر إلى الرحيل عن بلاده إلى كندا، ليقوم بتدريس الكتابة الإبداعية بجامعتها، بعد أن تعرض لتهديدات وضغوط قاسية بسبب كتاباته الناقدة للأوضاع، ولـ"الرئيس السوريالي الذي لا يبتسم أبدًا". وقد صودر كتابه الأخير من معرض الكتاب في أبريل الماضي، وكانت تلك السابقة هي الحدث الأبرز في المعرض الدولي للكتاب بتونس في هذا العام.

اقترح الرياحي على التونسيين قراءة العديد من الروايات المختارة بعناية من قبله، بقصد توسيع مجال رؤيتهم لما يحيق ببلادهم من تراجع وانحدار وعلامات كسوف وانهيار.

ضمن تلك العناوين اختار رواية "بائع الماضي" للكاتب جوزيه إدوارد إغوالوزا، وتدور وقائع الرواية حول بطلها فيلكس فنتورا الذي كان "رجلًا يبيع الماضي سرًا كما يبيع الآخرون الكوكايين".

قبل أن ينهض هذا "البطل" بدوره، انشغل بجمع النفايات من أخبار الصحف والأشرطة والتسجيلات والصور، وجعل من تلك الثروة أرشيفًا يعود إليه ليصنع للوافدين إليه ماضيًا مشرفًا".

كان يقوم بتبييض الفاسدين والقتلة والمجرمين واللصوص، ويبيع الماضي للطارئين من الوزراء ورجال الأعمال والتجار والجنرالات وجميع من ينقصهم الماضي المجيد، أو تنقصهم شجرة عائلة معتبرة!

... لقد تفاعلت مع اقتراح الرياحي بإعادة قراءة الروايات التي اقترحها بطريقة مغايرة ومحفزة على الالتفات إلى ما يجري في اليمن من زاوية حادة، وبعين الطائر، لأن حجم ابتلاء هذه البلاد -الممنوعة من المستقبل-بباعة الماضي، فادح، ولا نظير له منذ اندلاع الثورة ثم الحرب التي عصفت بها، وكان الماضي هو الساحة الرئيسية التي دارت فيها معارك لم يهدأ أوارها حتى اللحظة.

ازدهرت تجارة "بائع الماضي"، وتوسعت مهنته في اليمن باجتذابها للذباب الإلكتروني وجحافل المليشيات الإلكترونية وقنوات التلفزة "المتوحشة" والكتبة المأجورين في صحف النفط والغاز، والمكاتب المتخصصة باختراع الماضي أو بمنح صكوك الملكية بجزر وشواطئ وجبال و... الخ.

وجرى تفعيل شريحة "الذاكرة البريطانية"، وتفعيل شريحة ذاكرة "آل البيت" وشرائح أخرى شتى، كما جرى بناء إحداثيات واستحداث خرائط وطمس علامات وذاكرات، وإعادة ترتيب لأعراف وتقاليد، وإخفاء لمعالم وآثار.

إن الاستيلاء على الأراضي والبشر لا يتم إلا من خلال السيطرة على الذاكرة والاستثمار في سوء استخدامها، وما أنسب الاستثمار في أحوال مجتمع مصاب بدوار الحرب التي لم تنتهِ بـ"الهدنة"، بقدر ما استمرت مستعرة بتلاوبن وأشكال بينية وتحتية كثيرة وذات قوة تدميرية عالية.

لقد شكلت "الهدنة الحوثية -السعودية" أو حالة اللاحرب واللاسلم، فترة مثالية لفرض إحداثيات ووقائع جديدة وبديلة على الأرض، وخلالها شهدت البلاد المزيد من الإهلاك والهدر والإنهاك، والمزيد من الترسيم لخرائط وحدود ومجالات نفوذ، والفرض لسلطات الأمر الواقع، والتعديل للمناهج الدراسية والإنشاء والتعميم لنَموذج المدارس "القرآنية" لتحل محل مدارس التعليم العادية، والإشهار لمكونات وكيانات وتحالفات فضائية ووهمية، وتغذية انفلات وتفلت المليشيات المسلحة وصولًا إلى تركها في حالة شبيهة بحالة حيوانات "الألبكة" البلهاء التي تتناطح بقرونها في الغابات الكندية، وتموت بعد أن تتشابك قرونها ببعضها وتنشل حركتها.

إن طمس الذاكرة أو الاستحواذ الكلي عليها يشتمل على إنشاء محفوظات وتدوين تواريخ وأساطير وخرافات، واستخدام للماضي وتسخيره خدمة لاحتياجات الحاضر الناشئة عن صراع المصالح والنفوذ في مرحلة "الهدنة" التي انتعشت في ظلها مستوطنات الأحقاد، وتفاقمت معها موجة الانتقام والاغتيالات والاختطافات والتصفيات، ولم يتوقف القصف من السماء إلا لتتخذ الحرب مسارات ومسارب داخلية خفية ومرئية ومتحركة وسائلة.

وبالتزامن مع هذه "الهدنة"، صار للمليشيات "مجلس رؤساء" يتمتع كل عضو فيه بميزانية تقدر بمليارات الريالات من أموال الشعب المنكوب.

لقد كان القصف بالطيران عبارة عن عملية استعراضية همجية لعضلات قوة على من لا يملك أو قوة على الرد والردع، وكان مناسبة لاختبار أسلحة جديدة، وهدرًا سفيهًا لمليارات الدولارات على شراء المزيد والجديد من الأسلحة لتغذية ماكنة صناعة السلاح الأمريكية والغربية التي لا تشبع.

ولم يتوقف قصف "العدوان الخارجي" إلا ليشتعل قصف الداخل على الداخل، وليسفر عن سقوط الضحايا في كل يوم، وعلى مدار الساعة.

عمومًا، برهنت هذه الحرب القذرة على أن الماضي يغدو هدامًا عندما يسعى كل طرف لاستخراج حجج منه لتبرير ارتكاباته، وصار استرجاع حوادث الأمس والنبش في السجلات القديمة، عملة رائجة، ورغبة طاغية لدى كل أطراف الحرب.

ولئن توقف قصف الطيران، فقد استمر واستعر على الأرض، ودخلت البلاد في جولات جديدة من حروب استهداف الهوية، بل إنشاء هوية أو هويات أخرى على أنقاض الهوية المتشظية لليمن، وبناء صورة أخرى عن اليمن المندثرة -اليمن سابقًا- بنسخ أحداث والاحتفاظ بأحداث مرغوبة ومطلوبة، وتشويه وتكييف وتحوير الأحداث غير المرغوبة، ودحر ذكريات لمصلحة إبراز ذكريات معاكسة، وإن أفضى ذلك إلى زيادة التهاب عصاب المليشيات وعصبيات الأقوام والجماعات، واستفحال القتل وتعزيز اللامعنى والهباء المنثور.

...

ما سبق يحتاج إلى تطعيم بأمثلة وشواهد ومعطيات ملموسة، وذلك ما سنأتي عليه في موضوعنا التالي.