معنى الشرعية في الأزمة السياسية والوطنية الراهنة (1-3)

هذه المادة نشرت في مواقع التواصل الاجتماعي في أكتوبر 2016م، تعكس رؤية الكاتب في حينه، والذي مايزال متمسكًا بالخطوط العامة لها، بل وبالعديد من التفاصيل التي جاءت فيها، مع بعض التدقيق والتصويب، ولذلك يجب أن تقرأ في سياقها السياسي/ التاريخي الذي كتبت فيه. وسيجد القارئ أن ما يحصل اليوم هو استمرار سياسي واقعي لمضمون هذه القراءة، بهذه الدرجة أو تلك، أو أنه لا يتناقض في الجوهر مع محتواها، ومع حقيقة ما يجري اليوم، بقدر ما يفسر ويشرح حقيقة العبث الحاصل بواقع وتاريخ البلاد، في الشمال والجنوب.


لن أدخل في نقاش قانوني، دستوري (حقوقي) حول مفهوم "الشرعية"، فذلك في تفاصيله الدقيقة لا يعنيني في هذا المقال (على أهمية ذلك)، فلذلك الأمر مختصون، وسأحاول التطرق للموضوع من زاوية البحث السوسيولوجي والسياسي (المشهد السياسي الوطني)، أي من باب السياسة، والسلطة، وعلاقة المجتمع بهما والمكونات السياسية، وهي الخلاصة النهائية التي تقود إليها، وتصب جميع القراءات في تحديد معناها ومضمونها، سواء القراءة التخصصية القانونية، الدستورية، أو القراءة الاقتصادية الاجتماعية، أو القراءة السياسية، جميعًا تريد أن تقول إن الشرعية تكمن هنا، في مصلحة هذا الطرف السياسي، الاجتماعي، أو ذاك.

وجميعها في تقديري تمر عبر قاطرة التحليل السوسيولوجي السياسي الموضوعي التاريخي.

وأنا هنا لا أدعي الحياد في ما يجري من صراع سياسي اجتماعي، فأنا جاهز، حاضر، ومتماهٍ، وفاعل في قلب هذا الصراع، على أنني أزعم أنني سأحاول ما استطعت أن ألتزم جانب الموضوعية، والواقعية في ما أكتب وأحلل، واضعًا في الاعتبار مصلحة الشعب الفقير والمفقر والأعزل من جميع مصادر الحياة.. واضعًا في الاعتبار هدف استعادة الدولة المصادرة في جب الانقلاب.

1- الشرعية والمشروعية في الأزمة السياسية الراهنة:

من المهم هنا البدء بالتفريق، في شكل سريع وموجز، بين معنيين أو مفهومين هما: "الشرعية"، و"المشروعية"، فلكل منهما معناه ودلالته الذاتية، والواقعية الخاصة، فالشرعية، تحمل دلالات متعددة: فهي قد تعني الشرعية القانونية والدستورية، الشرعية السياسية، الشرعية الدينية، الشرعية الديمقراطية (الانتخابية)، الشرعية الوطنية، شرعية الإنجاز (التنموي)، الشرعية التوافقية.

ولكل منها معناه ومفهومه الاختصاصي في السياق الذي ترد فيه.

أما المشروعية: فهي تعني أن هذا العمل، وهذا النظام السياسي، أو هذا أو تلك من السلطات، تقف خلفها حركة شعبية جماهيرية واسعة، أو أن رصيدها الاجتماعي الشعبي في الواقع كبير وفاعل، يعطي هذه الأشكال من الحكم والأنظمة شرعية وقوة استمرارها في الواقع. أي أن هذا العمل أو الموقف أو الإجراء السياسي، تقف خلفه قوى اجتماعية مساندة وداعمة وشارطة له ولاستمرار دوره وفعله في الواقع، ولا صلة لهذه المشروعية بالمعنى السياسي والمباشر (العملي)، بالدستور، والقانون، أو الممارسة الانتخابية، وقد لا يكون لهذه المشروعية أية صلة بالإنجاز، وتكريس دولة المواطنة، والحقوق لأبنائه جميعًا، مشروعية قد تقوم على التحشيد والتجييش الجماهيري تحت شعارات وعناوين سياسية مختلفة: ثأرية، مذهبية، طائفية، قبلية، أو تحشيد شعبي وطني عام خلف شعار من الشعارات الموحدة والجامعة للناس أو لقطاع منهم، على سبيل المثال: الدفاع عن الوطن، قضية الحدود (السيادة)، شعار "مقاومة العدوان"، قضية رفع الأسعار. وفي بعض أو عديد من الأحيان قد تسقط وتلغي المشروعية بهذا المعنى، الشرعية الدستورية والديمقراطية، وتحل بديلًا عنها.

إن القوة لا تصنع شرعية، قد تصنع مشروعية سياسية أو اجتماعية مؤقتة، (سلطة أمر واقع)، تحت أي مسمى كان، وتفرضها بالقوة حين تذعن لها النخب السياسية (كما حصل عندنا في 21 سبتمبر 2014م حتى اليوم)، ويخضع لها المجتمع ويقبل بها كرهًا.

وعمومًا، شرعية القوة لا مستقبل لها مهما طال أمدها، ومهما كان سندها الآتي من المشروعية "الشعبية/ الشعبوية"، والاجتماعية (التحشيد والتجييش "الثوري" أو التحشيد المذهبي والطائفي والقبلي)، فهذه المشروعية تتآكل، وتتناقص، وتتراجع، وتتحول إلى ضدها مع فقدان الشعارات السياسية العامة لمضمونها، وذهاب بريقها، وانكشاف زيفها في واقع الممارسة، بخاصة حين يتكشف عمقها القمعي، والتسلطي -قمع المظاهرات، وسجن شباب الثورة، وتعذيبهم وقتلهم- وزيف شعارات العدل الاجتماعي، والمساواة الاجتماعية والاقتصادية تحديدًا، بعد أن آل المآل إلى ما نحن فيه اليوم من غياب لكل شيء: الأمن، والاستقرار، والحرية، والديمقراطية، والعدالة، وبعد أن تمرغت السيادة الوطنية بوصول صواريخ وقذائف "عاصفة الحزم"، إلى كل مكان في الأرض اليمنية!

لقد ثار الشعب اليمني على نظام علي صالح، بعد أن فقد نظامه جميع أشكال الشرعية في الرضا والقبول به: من أزمة الشرعية السياسية، إلى أزمة الشرعية الوطنية، إلى فقدانه شرعية الإنجاز والتنمية، إلى الشرعية والمشروعية الاجتماعية، بعد أن ضاقت قاعدته الاجتماعية والشعبية، إلى أزمة الشرعية الدستورية الوحدوية بعد إلغائه دستور دولة الوحدة، حتى رفض ونقض نظامه بثورة الشباب، والمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، حتى الشرعية التوافقية، على رفض واستمرار حكمه وبقائه بدليل ما يحصل اليوم. ولذلك هو يقبل بأية شرعية قوة (انقلابية) قد تعيده أو ابنه، أو من يمثله إلى الحكم، وهو سر تحالفه المؤقت مع الحوثيين (أنصار الله).

لقد قبل علي عبدالله صالح بشرعية الانقلاب، ومهد له موضوعيًا، وسياسيًا، وإن كان عارضه اسمًا وشكلًا، لسبب الموقف من حل البرلمان الذي قد يعني تدمير جميع جسوره مع أية حالة دستورية، شبه شرعية، قد تبرر وجوده، ودوره.

ليس من تسمية لتحالفه مع الحوثيين (أنصار الله)، سوى تسمية ذلك "التحالف" بـ"الانتقامي" و"الثأري"، وهو ما يفسر دخوله المشترك مع "أنصار الله"، إلى صنعاء، واحتلالها، وقبلها تحالفه معهم في دخول "عمران"، وتصفية مشايخ بيت عبدالله الأحمر، "الطغاة"، ومعهم اللواء علي محسن، بعد الدور البارز لعلي عبدالله صالح، لتسهيله دخولهم صنعاء دون مقاومة تذكر، في 21 سبتمبر 2014م.

لا يمكننا فهم تحالف علي عبدالله صالح مع الحوثيين (أنصار الله)، سوى أنه -من جانب- تحالف انتقامي ثأري من ثورة الشباب والشعب، فبراير 2011م، وهو -من جانب آخر- تحالف للحفاظ على بنية منظومة سلطة دولة المركز والعصبية "الدولة العميقة التاريخية"، تحالف وجد كل منهما في الآخر ما يكمله ويساعده على الاستمرار والبقاء، ولو إلى حين، تحالف محكوم بميزان القوة والقوى في الداخل "توازن الضعف" بالتنسيق مع القوى الخارجية في الإقليم (السعودية/ الإمارات)، ومن هنا تضحيته بالدولة والسلطة الجمهورية، وتوظيف ما تبقى من الجيش الذي تحت إمرته في خدمة مشروعهما السياسي في تمرير وفرض الانقلاب.

إن الإعلان السياسي (الدستوري) في 6 فبراير 2015م لـ"أنصار الله"، ليس سوى تأكيد لفرض "شرعية القوة" (الانقلاب) الذي لم يستكمل، ووقف في منتصف الطريق. ويمكننا القول إن "أنصار الله" بالإعلان السياسي (الدستوري) أنتجوا أزمتهم الذاتية الخاصة، بقدر ما رفعوا من سقف هذه الأزمة السياسية والاجتماعية، والوطنية العامة، وأدخلوا أنفسهم، والمجتمع كله معهم، في حالة أزمة سياسية بنيوية شاملة، تطال معنى شرعية وجودهم:

أزمة شرعية سياسية، حيث الإعلان السياسي (الدستوري) نقيض للعملية السياسية، وللحالة السياسية السلمية الحوارية (التوافقية)، المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، مخرجات الحوار الوطني الشامل، "اتفاق السلم والشراكة"، والقرارات الدولية ذات الصلة، كما وضعوا أنفسهم في حالة مواجهة مع الجميع أفقدتهم الشرعية الوطنية (التوافق الوطني)، وفي أزمة مع ما تبقى من الشرعية الدستورية، وفي أزمة شرعية اجتماعية، من خلال تمددهم إلى جغرافيا، اجتماعية، ووطنية، ليست حاضنة لهم داخل الشمال، ومع كل الجنوب، حيث وضعت شرعية القوة (أزمة شرعية السلاح) في مواجهة كل ذلك، وأصبح الأمر أكثر تعقيدًا وخطورة بعد اجتياحهم للمحافظات الجنوبية، 2015م، ومأزق الحرب السياسية أو العسكرية الوحشية على عدن.

ولا يخالجني أدنى شك، وفقًا لمتابعتي لتطورات المشهد السياسي، من أن علي صالح، هو من سعى جاهدًا في البداية لتوريط الحوثيين (أنصار الله) في ذلك، ليتطهر ويتحلل من جرائمه بهم، ومن خلالهم، وليوثق ارتباطهم به وبتاريخه الذي لا مستقبل له.

كان صالح يتوهم أن مخرجه لن يكون إلا بتوريط "أنصار الله" في ما يجري من أزمة، ولكنه -كما نرى- يقع في مستنقعها، وكأن الدم يجره إلى حتفه.

إن مجموع أزمات الشرعية السالفة أنتجت بالضرورة في سياقها، أزمة عدم القدرة على إدارة الدولة/ السلطة، أزمة شرعية مع المجتمع واحتياجاته وتحدياته الداخلية، وأزمة علاقة مرتبكة وغير واضحة مع الإقليم، والمجتمع الدولي، وليس قرارات الشرعية الدولية الأخيرة 14/4/2015م (2216) وما قبلها سوى تتويج لرفض استمرار شرعية القوة (الانقلاب) الذي لم يستكمل، وتوقف في منتصف الطريق، لا هم استكملوه كانقلاب، ولا تخلوا عنه، بقوا معه في "منزلة بين المنزلتين"، وهو خطيئة سياسية استراتيجية كبيرة.

كانت جميع المكونات القريبة من الحوثيين (أنصار الله)، والمحبة لهم أو المتعاطفة معهم، تدرك خطورة وحساسية علاقتهم بالرئيس السابق علي صالح، وهي (الجريمة/ والفضيحة) العلاقة التي كانوا يعدونها تحالفًا تكتيكيًا، مؤقتًا، وكان هو يريد من ذلك الانقلاب، تحقيق هدف استراتيجي، كان يدرك بحساب مصالحه الضيقة، ومن واقع أزمته الذاتية، السياسية والاجتماعية والوطنية، ماذا يريد سياسيًا، وعمليًا، من ذلك التحالف، ولذلك كان يسعي إلى حبسهم داخل سجن هذه العلاقة، وذهب إلى دفعهم، وتوريطهم أكثر في مواقف حساسة وخطيرة، يكون التراجع عنها بعدها صعبًا، إن لم يكن متعذرًا، بل مستحيلًا. ذلك أنه فتح شهيتهم أكثر للاستيلاء على كل السلطة.

ولم تتوقف نصائحنا للحوثيين (أنصار الله) بما يدبره ويرمي إليه علي عبدالله صالح، دون جدوى (إنها مقامرة لعبة السلطة) جنونها ومكرها، وانخرطوا في لعبة تكتيكية خطرة، كان هو يرمي هدفًا استراتيجيًا خاصًا به، فضلًا عن (توريطهم)، وقطع أية علاقة لهم بالتحالف التوافقي مع الآخرين، وتدمير جسور صلتهم بالمستقبل، بعد أن مزق الروابط والصلات السياسية العامة التي جمعتهم في الواقع بـ"القوى اليسارية، والقومية، والديمقراطية"، وحتى لا يبقى أمامهم سوى هو، (العدو من أمامكم، وعلي عبدالله صالح، من ورائكم)..

وتمكن صالح، بخبرته السياسية الشيطانية الطويلة في الحكم، وبعقلية المتآمر، ومخططاته الأمنية، والحربية الدموية، من إقناع "أنصار الله" الذين كان لديهم ثلثا الرغبة في السلطة، وفي واقع تشكل حالة من الوعي الزائف، من أن تحالفه معهم هو كل الشرعية، وأن شرعية القوة (الانقلاب) هي من ستتحول إلى "أمر واقع"، تمتلك قوة الشرعية، ومن أن الداخل (المكونات السياسية) رضخت لأمر الحوار تحت شرعية القوة -أقصد هنا النخب السياسية- وأن ذلك هو المدخل لقبول الخارج (الإقليم/ والمجتمع الدولي)، بذلك، فمن يمتلك شرعية القوة، بمقدوره أن يتحول سريعًا إلى "قوة شرعية"..

وكان صالح بذلك يورطهم أكثر فأكثر، ويدفعهم إلى تحطيم وتدمير جسورهم مع الآخرين والمستقبل، بعد أن صارت كل الدولة ومؤسساتها، بما فيها وحدات الجيش الفعلية، والأمن والمال، والاستخبارات، بأيديهم، "الدولة العميقة"، وكان يعلن في خطاباته وتصريحاته الخاصة المتكررة، أن هذا المسلك والطريق هو ما سار عليه في حرب 1994م، وهو ما جعل الداخل والخارج يقبل به، بعد أن حول "شرعية القوة" إلى "قوة شرعية"، وكان يردد على مسامع الحوثيين، تجاربه في حروب التشطير، وحروب المنطقة الوسطى (ويقفز على حروبه الست في صعدة)، ليدخلهم إلى قلب الحرب الجارية، فبراير 2014-2015م، التي عمت اليمن كلها، واستدعت الخارج إلى داخلنا، في صورة "عاصفة الحزم"، وبالنتيجة تضعف الموقف الضدي من الانقلاب، والتي لها -السعودية- حساباتها الخاصة من تدخلها العسكري، والتي قسمت الحالة السياسية والاجتماعية، والوطنية، منها -مع الأسف- إلى صفين، وفسطاطين، وهي أخطر وأوسع ضربة تطال وحدة وتماسك النسيج الاجتماعي، وتضعف حالة الاندماج الوطني، وبالنتيجة الموقف السياسي الوطني من قوة "عاصفة الحزم"، وبالنتيجة -كذلك- تخفف من الموقف العدائي من الانقلاب.

كان صالح يدرك، بعمق خبرته في السلطة، وتجاربه التآمرية في الرقص على رؤوس الأفاعي، كما يقول، أن مدخله للحرب الأهلية في طابعها المذهبي/ والطائفي، هو في تمكنه من تدوير الحرب الداخلية، ومن إدارة الصراع، والأزمات بالحروب، لأن الحرب الأهلية في طابعها ومضمونها المذهبي/ الطائفي، والقبلي الجهوي، هي بوابة إنقاذه الوحيدة من المحاسبة، والمساءلة، ومعلوم للجميع محاولاته الدؤوبة للتواصل مع الإقليم، ومع الخارج الدولي، لإنقاذ نفسه وأسرته الصغيرة، في أكثر من مرة.