نُخب الغفران والنسيان في اليمن

ما إن تنتقل إلى رحمة ربها شخصية عامة يمنية، تولت منصبًا أو عدة مناصب رفيعة معظم أو طول حياتها، حتى يسارع البعض بمنحها صفات لم تتجسد في سلوكها ومواقفها، وهم بذلك إما يخدعون ذاكرتهم أو يستسهلون توظيف نعوت يمنحونها بالمجان لمن لا يستحقها بوصفهم المتوفى بصفات لم تكن ملموسة في سلوكه، ولم تعززها خبرة من تعاملوا معه.

وحرصًا على قيمة الكلمة، علينا ألا نخترع أو نسرف في إضفاء نعوت لو سمعها المتوفى في حياته لتوارى خجلًا، ولقال: "بلاش حنبات"، رجاء لا تورطوني. لأنه يعلم أنها لم تلازم سلوكه السياسي أو إنتاجه الفكري، النثري أو الشعري، أو مواقفه من كثير من القضايا التي تتطلب التعبير عن موقف وعدم الصمت حيالها.

على سبيل المثال عندما تُوفي ضابط في الأمن السياسي، قبل عشر سنوات، وُصف بـ"المناضل الجسور"، مع أن طبيعة المهنة تتعارض كلية مع هذا السخاء الذي لا يمكن هضمه، لأن وظيفة رجل الأمن أن يقف في الضفة المضادة لضفة المناضلين، ولأن وظيفته هي القمع، أو على الأقل النميمة المؤذية المدفوعة الثمن. حتى الأمنيون الحزبيون في فترات ماضية، كانوا يتفننون في تعذيب خصومهم الحزبيين. مثلًا اعتاد رئيس وحدة محاربة اليسار والقوميين، تعذيب بعض خصومه السياسيين حتى الموت، وعندما ينتقل الرجل إلى رحمة الله، قد يتجنى البعض عليه، ويصفه بالمناضل الجسور. المناضل والمناضل الجسور ثقافة مجانية سادت في عهد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، وقد أُطلق عليه شخصيًا هذان الوصفان، وهو منهما براء.

ومنطقيًا يستحيل في اليمن بالذات، حيث الوظيفة العامة مغنم صافٍ، الجمع بين منصب رئيس الدولة وحتى منصب وزير وما في حكمه، وبين العمل النضالي. لقد وُصف رئيس وزراء تداول اليمنيون طويلًا عبارة نُسبت إليه، وهي: "إذا لم نغتنِ في عهد علي عبدالله صالح، فلن نغتني أبدًا"، وعند عودته من رحلة علاجية، عُلقت بأمر من صالح نفسه، يافطات كبيرة في محيط مطار صنعاء، رحبت به كـ"مناضل جسور"، وعند وفاته وصِف بالكلمتين ذاتهما.

إذا كان النضال مواقف ومواقف فقط، فعلينا ضبط لغتنا، ولا نرص بحسن نية أحيانًا نعوتًا لا صلة لها بحقيقة مواقف من نحب مجاملته بعد وفاته. وينبغي هنا استحضار المواقف النضالية الحقيقية للفقيد إذا كنا نعني ونعي ما نكتب. على سبيل المثال لا الحصر، ماذا كان موقف المتوفى من:

1. حربي 1994 ضد الجنوب وصعدة بأهدافهما وتركتهما الكارثية على جميع الصعد؟

2. هل أعلن موقفًا رافضًا أو مستنكرًا لاغتيالات الاشتراكيين قبل وبعد الوحدة، وطرد أكثر من مائة ألف جنوبي من وظائفهم بعد حرب 1994؟ 3. هل كان له موقف معارض على موافقة الرئيس صالح وشريكيه رئيسي السلطتين التشريعية والتنفيذية، على النفاذ النهائي لاتفاقية الطائف لعام 1934؟ 4. هل كانت له مواقف علنية ضد الفسادين المالي والإداري والمحسوبية والاستبداد والقمع والاختفاء القسري؟ 5. هل وقف ضد توريث السلطة للسلالة وفساد حكم الأسرة؟

ويمكن إضافة قضايا أخرى، كموقفه من المواطنة المتساوية، وحكم الدستور والقانون، وكسر عداد الدستور... الخ. وكقاعدة ليس من حقنا انتقاد من آثر الصمت أو حتى المداهنة، لأن ذلك كان اختياره الذي لا حق لأحد بالتدخل فيه، ولكن النقد هنا ينصب على إضفاء صفة المناضل على المهادن والمتواطئ بصمته.

ومهما كانت عواطف أي شخص جياشة نحو المتوفى، فليس من حقه منحه صفات لم تكن من جنس أفعاله، كالمناضل، والمناضل الجسور والوطني، والرمز، والرمز الوطني... الخ.. لأن هذا يعني امتهانًا للكلمة، وانتقاصًا من تضحيات مناضلين حقيقيين قضوا في صمت، وأن المتوفى قضى حياته معارضًا للسلطة، ومدافعًا عن حقوق الإنسان، ومتصديًا لانتهاكاتها، ولتزييف السلطة للانتخابات، وقمعها للحريات العامة، ومتصديًا لنهبها المال العام، ولفشلها التنموي، وأنه في حياته كـ"مناضل" أو "مناضل جسور"، كان ما إن يغادر السجن حتى يعود إليه، وأن السلطة آذته في معيشته وفي وظيفته، وأقلقت أمنه وأمن أسرته، وأن صوته وصل إلى مسامع منظمات دولية تناصر، عن حق أو عن باطل أو نص نص، حقوق الإنسان.

تقول مقولة مصرية: "الصحاب مش بالسنين، وإنما بالمواقف". والموقف هو سيد الموقف والحَكم من هذا وذاك حيًا أو ميتًا.

وأخيرًا، فإن من حق الشخصية العامة، في ظل نظام قمعي، أن تحرص على سكينتها وحياتها، وألا تمارس أي دور معارض، أو "نضالي"، وتكتفي بحرصها على نظافة اليد واللسان والقلم.

وفي هذه الحالة، فما تؤديه في وظيفتها هو واجب لا يستحق ثناء في حياتها ولا بعد مماتها، لأنها كانت تتقاضى عليه أجرًا، وأجرًا كبيرًا، مكنها من العيش عيشة رغيدة، ومن استخدام سيارة/ سيارات فخمة بترولها ومرتب سائقها وصيانتها من المال العام، وعاشت في بيت كبير، وربما في قصر، وكانت محروسة في مسكنها بجنود تدفع الدولة مرتباتهم، وفي تحركاتها كان جنود الحراسة لا يفارقونها، وربما إنها امتلكت أكثر من عقار وأكثر من رصيد مالي وبأكثر من عملة، وإذا مرضت كانت تعالج بالمال العام في الخارج، وفي الغالب علمت أولادها أو بناتها بمنح حكومية في جامعات غربية، وليست عربية، ولم تعانِ من الفاقة، ولا دخلت السجن وعُذّبت فيه بسبب آرائها ومعتقداتها السياسية.

إذا كان هذا هو الحال، فهي لا تستحق أن توصف بأنها من المناضلين. هذا إذا كنا نريد تجنب الانحراف الثقافي والسياسي، وتقويم اعوجاجات لغتنا السياسية، وانحياز عواطفنا تحت دافع غير موضوعي. ثقافة المواطن المدني لا تجيز هذه المبالغات المفرطة والضارة التي تعادل عمليات غسيل للسمعة، وعلينا أن نمتنع عن إطلاق نعوت مجانية لم يدفع المتوفى أثمانها في حياته. لقد توفي البردوني وهو متحرر من "العاهة النضالية"، مع أنه كان مناضلًا حقيقيًا قبل وبعد الثورة والوحدة، ويتذكره الناس كشاعر وطني لم يتزلف للسلطة أو يداهنها أو يصمت على أفعالها وجرائمها.