من "مقاوم" للحوثيين في عدن إلى مختف قسريا

عادل حداد معاناة مستمرة منذ 6 سنوات

عادل حداد قبل شهر من اختفائه
عادل حداد قبل شهر من اختفائه (شبكات تواصل)

بَلغهُ أن أخاه "عادل حداد" بُترت ساقاه وذراعاه، فتوقف قلبه عن النبض، ومات، تاركًا خلفه تساؤلات كثيرة كان يبحث لها عن إجابة.

كان ذلك في يوم الاثنين 27-3-2017م، وكان قد مضى أربعة أشهر على اعتقال أخيه في جولة الكراع مديرية الشيخ عثمان محافظة عدن.

يعاني بسام حداد، وهو الأخ الأكبر للمختفي قسريًا "عادل"، من متاعب في القلب، وهو من تولى رعاية الأسرة، بعد جريمة اعتقال وإخفاء أخيه في يوم الأحد 27-11-2016م، وذلك عندما كان في طريقه لاستلام راتبه من التحالف، كما تحمل بسام مسؤولية تربية أخيه عقب وفاة والده حينما كان عمره ست سنوات.

والدة بسام، 61 عامًا، هي الأخرى لم تتحمل شائعة خبر بتر ساقي وذراعي فلذة كبدها، فأصيبت بنزيف في الدماغ وفقدان للذاكرة، ولكنها وعلى الرغم مما تمر به، إلا أنها لا تنسى عادل، وتظل دومًا تسأل أبناءه عنه، في مشهد ترجيدي يبكي الصخر من ألمه.

وكيف لهذه الأم ألا تتألم وهي التي ترى في عادل الابن البار الذي لا يقصر معها، ويوفر لها كل احتياجاتها، ويزورها أغلب الأوقات.

وظل خبر بتر ساقي وذراعي عادل، الذي وصل إلى عائلته، وتسبب في كوارث، مجرد شائعة لم يؤكدها أو ينفها أحد، ولم يعرفوا مصدرها حتى اليوم.

 

اعتقال أعقبه اختفاء قسري

قالت أروى فضل، زوجة المختفي قسريًا عادل، إنه وفي يوم الخميس الساعة التاسعة صباحًا 17-11-2016، توجه عادل مع صديقه هلال إلى الشيخ عثمان، على متن باص نوع نوها رصاصي، وذلك لاستلام راتبيهما، وكان بحوزة زوجها مبلغ مالي، وآلي، ومسدس شخصي، وبعض الأوراق.

وبينما هما في جولة الكراع مديرية الشيخ عثمان، أوقفتهما نقطة أمنية بسبب العاكس، ولكن أخبرهم عادل بأنه وكالة، وأعطاهم رخصة أنه من قادة المقاومة، وبعدها سمحوا له بالمرور من النقطة.

وبحسب رواية أحد شهود العيان لأسرة عادل، فإنه وبعد السماح لهما بالمرور من النقطة، وبمسافة بسيطة، قام الجنود بإطلاق النار على إطار الباص، وعند توقفه فتحوا أبوابه، وأخذوا الأوراق، وأخذوا عادل ورفيقه (هلال) الذي أطلق سراحه بعد شهرين من اعتقالهما، ثم انتقل للعيش في محافظة إب.

عند الساعة الواحدة ظهرًا، تلقت شقيقة أروى، اتصالًا هاتفيًا عادل، ولكن لم تكن تسمع من هذا الاتصال سوى أصوات مشاجرة، وبعدها أغلق الهاتف. ورغم محاولات الاتصال به، إلا أنه ظل مغلقًا.

تقول أروى: "عندما شعرت شقيقتي بالخوف اتصلت تسألني عن زوجي، وأخبرتها أنه منذ الصباح لم يعد إلى المنزل، وفي تلك اللحظات أخبرتني عن الاتصال الذي وصلها".

عادل حداد قبل اخفاءة بتسعة اشهر
عادل حداد قبل اخفاءة بتسعة اشهر (شبكات تواصل)

ومن هنا بدأ الرعب يدب في قلب أروى، خوفًا من المجهول الذي ينتظرهم، وعند الساعة الرابعة مساءً من نفس ذلك اليوم، توجه أحد أصدقاء بسام (شاهد عن واقعة الاختطاف)، وأخبرهم بما حدث.

تتذكر أروى تلك اللحظات، وتقول: "أنا ما كنت مصدقة الذي حصل، وزعلت كثير، وارتفع ضغطي". وتتابع: "جلست بعد ذلك مع أولادي، وكلمتهم، وكانت صدمة قوية بالنسبة لهم".

بعد تلقي عائلة عادل حداد خبر اعتقاله وإخفائه، بدأوا بالبحث عن مكان تواجده، أصدقاء له في المقاومة أخبروا عائلته أنه يتم التحقيق معه في "التحالف"، وصديق لعادل أخبرهم أنه حينما كان بسجن الإنشاءات سمع أحد الضباط يقول: "عادل مطلوب للتحالف حيًا أو ميتًا".

لم تكن قضية الاختفاء القسري في اليمن وليدة حرب 2015م، وحسب، بل هي سلوك اعتيادي كانت تقدم عليه سلطات صنعاء وعدن في السبعينيات والثمانينيات، وفي حرب صيف 94.

وفي 2015م شهدت اليمن تزايدًا في أعداد المختفين، إذ تعرض العديد من المواطنين للاختفاء القسري في مدينة عدن، خصوصًا شباب المقاومة وقيادييها الذين اغتيلوا أو اختفوا قسريًا عقب المعارك الطاحنة التي شهدتها كل من خور مكسر، كريتر، التواهي والمعلا، لمدة أربعة أشهر، انتهت بتحرير المدن في عملية "السهم الذهبي".

وتعد قصة المختفي قسريًا عادل حداد، واحدة من بين عشرات القصص التي أعقبت حرب التحرير، وهي المعاناة التي لم تلتفت لها الحكومة الشرعية (المعترف بها دوليًا)، ولا حتى المجلس الرئاسي الذي تشكل في 7 أبريل 2022م، ولا المجلس الانتقالي الذي يعد الحزام الأمني أحد مكوناته العسكرية.

 

وفاء للأسرة وللوطن

قضت أروى أيامها في قلق دائم، وكانت دائمة الإلحاح على إخوة زوجها بالسؤال عن أي جديد، لدرجة أنها كانت وبعد كل خمس دقائق تتصل بهم، لمعرفة ما إذا عثروا على أية معلومة توصلهم إليه، وتؤكد مكان تواجده.

وكيف لهذه الزوجة الوفية ألا تقلق، فعادل أبو أبنائها وشريك حياتها الذي جمعها به القدر، ورأت فيه نعم الزوج، تقول أروى: "لقد كان عادل نعم الزوج، ونعم الأب، والابن البار بزوجته.. كما كان الابن والأخ لأمي التي فقدت فلذة كبدها".

وتضيف: "لقد كان إنسانًا محبوبًا يساعد الجميع، ولا يترك أحدًا يحتاج للمساعدة إلا ووقف بجانبه".

وتذكر أن زوجها كان وفيًا وصادقًا حتى لوطنه، ولذلك كان أحد رجال المقاومة، وأصيب ثلاث مرات برصاص مسلحي الحوثي أثناء المعارك في عدن.

ولم تخفِ حجم صدمتها وحزنها الشديد باختطافه زوجها وإخفائه، وكانت في كل مرة تقنع نفسها بأنه سيعود، وأن كل تلك ما هي إلا مجرد تحقيقات.

اختطاف الأب شكل أيضًا صدمة أخرى للأبناء وللابنة البالغة من العمر ست سنوات، إذ أصيبت في ما بعد، وبسبب الخوف، بمرض التبول اللاإرادي الذي تعافت منه مؤخرًا.

 

ثلاث إصابات في الميدان

لم يكن عادل، وهو أب لأربعة بنين وثلاث بنات، وحده الإنسان الرحيم بأسرته وكل من حوله، بل كان المقاوم هو وأسرته في الميدان، فقد كانت زوجته أيضًا تقوم بواجبها الوطني تجاه جرحى المعارك، رغم اعتراض الناس الذين كانوا ينصحونه بعد المجازفة بأسرته.

تتذكر أروى في حديثها لـ"النداء"، لحظات حصار كريتر، وتقول: "أثناء حصار كريتر، وحينما كان يتعرض أي شاب من شباب المقاومة، للإصابة، نقوم بإعطائه بعض المهدئات، ونغير ملابسه، وأتظاهر بعدها أني مريضة، وأن هذا ولدي أو زوج ابنتي، وأتوجه أنا وابنتي معه إلى المستشفى ليلًا لعلاجه".

وتؤكد أنها كانت تقوم بكل ذلك من أجل تجنب تعريض أي جريح للاعتقال من قبل جماعة الحوثي.

بسبب المعارك وما آلت إليه الأوضاع آنذاك، كان عادل دائم التواجد في الجبهات، ولا يعود للمنزل إلا لوقت قصير.. تقول زوجته: "عندما كان يذهب زوجي إلى الجبهة، كانت تمر عليّ الثانية كأنها ساعات، أنتظر لحظة رجوعه".

وتردف بالقول: "كان عندما يغيب عن منزله يومين، يعود للنوم ساعة واحدة فقط، وينهض أحيانًا قبلها إذا كان هناك أمر طارئ يضطره للخروج تلبية لنداء الواجب".

تعرض عادل للإصابة ثلاث مرات في الجبهة، وتذكر زوجته أن الإصابة الأولى كانت عبارة عن شظية اخترقت رقبته، وذلك أثناء حصار كريتر، والإصابة الثانية كانت في يده عندما كان يطلق بالمعدل على قناص كان يقوم بقنص المواطنين، بينما الرصاصة الثالثة اخترقت صدره، كما تعرض لشظايا في الأصابع.

وتشير إلى أنها كانت في كل اللحظات تقف معه وبجواره، وترفع معنوياته كلما شعر بالهزيمة، وتسلل اليأس إلى قلبه.

ولم تخفِ أروى خوفها وقلقها الشديدين على شريك عمرها الذي يعاني من مشاكل صحية في القلب في وقت هو بعيد عنهم لا يعرفون وضعه.

 

معاناة أعقبت الاختفاء

رهف الابنة الصغرى للمختفي قسريًا عادل خلال وقفة احتجاجية
رهف الابنة الصغرى للمختفي قسريًا عادل خلال وقفة احتجاجية (شبكات تواصل)

تعبت أروى وأبناؤها في متابعة راتب زوجها المختفي قسريًا، وكانت تتسلم آنذاك 58 ألف ريال راتبًا واحدًا كل ثلاثة أشهر، ويتحجج القائمون على تسليم الرواتب بالبصمة، ولكن ذلك لم يجعلها تفقد الأمل في استمرار الحياة.

تقول أروى أو "أم محمد" كما تحب أن يسميها الآخرون: "في البداية تعبنا كثيرًا، فقد أصبحت مسؤولة عن البيت وأعوله بمساعدة أختي وأمي وبعض الأصدقاء الذين كانوا يقفون معنا عندما يضيق بنا الحال". وتتابع: "خرج أبنائي للعمل بالأجر اليومي، وأنا عملت في الرصد".

وتشير إلى أنه ومنذ بداية عام 2023م، بدأوا يستلمون راتب زوجها وبشكل منتظم أفضل من قبل.

 

أب عالق في ذاكرة أبنائه

ويترك الاختفاء القسري الأثر السلبي في نفوس ذوي المخفيين، وتحديدًا الأطفال الذين يحرمون من عطف الأبوة، ويعيشون في وضع نفسي محزن، وهو الحال بالنسبة لسبعة أبناء وبنات يعيشون منذ سنوات في تساؤل دائم وأمل اللقاء بوالدهم.

"هل سيتذكرنا أبي عندما يعود بعد أن كبرنا وتغيرت أشكالنا؟"، تقول أروى: يتكرر عليّ هذا السؤال من أبنائي، ويصنع لي وجعًا آخر لا أعلم كيف أتعامل معهم.

رهف الابنة الصغرى للمختفي قسريًا عادل خلال وقفة احتجاجية
رهف الابنة الصغرى للمختفي قسريًا عادل خلال وقفة احتجاجية (شبكات تواصل)

ويزداد شوق الأبناء والبنات لوالدهم في أوقات مرضهم، لأنه كان لا يتركهم وقت مرضهم، ويظل بقربهم حتى يتماثلوا للشفاء.

وعند سؤالي لأروى حول أكثر وقت كان يخاف فيها عادل على أبنائه، قالت: "في الفترة الأخيرة كان يخاف على أولاده من تنظيم القاعدة، وذلك لأنهم حاولوا اغتياله، كما كان يخاف أن يضعف بسبب مرضه، وأن يموت ولم ينجز بناء منزل لهم".

 

الحزام الأمني

وجهت أروى فضل، أصابع الاتهام للحزام الأمني في عدن، الذي كان يقوده أبو اليمامة آنذاك.

وناشدت كل الجهات الأمنية والمنظمات الدولية والمحلية، الضغط على الجهات المعنية بالاختفاءات، للكشف عن مصير زوجها المختفي قسريًا بدون أي ذنب ارتكبه.

وطالبت بتحويله للقضاء بكل شفافية ومصداقية في حال كانت هناك أي أدلة تدينه، وقالت: "إذا كان زوجي بريئًا فأنا أطالب بمحاسبة من انتهك حقه وحقنا في العيش بكرامة وأمان".

وإلى اليوم، لم تتجاوب الجهات المعنية مع قضية اختفاء عادل حداد، ولم تحصل زوجته على أي تجاوب لتساؤلاتها، فتارة يخبرونها بأنها مجرد تحقيقات، وتارة يقولون إنه في التحالف، وتارة أخرى ينكرون وجوده تمامًا.

وهكذا، وبعد مرور ست سنوات من اختفاء عادل، تحولت زوجته أروى فضل، من ربة بيت إلى ناشطة وعضو في رابطة أمهات المختطفين، تتابع السجون، وتخرج الوقفات، وتتابع المنظمات والجهات الحكومية بقلب صابر لم يفقد يومًا أمله في العثور على زوجها رغم كل التحديات.

 

60 مخفيًا في غياهب المعتقلات

وقد نفذت أمهات المختطفين، الشهر الماضي، وقفة احتجاجية أمام قصر معاشيق في محافظة عدن وذلك للمطالبة بالكشف عن أبنائهن المختفين قسريًا والإفراج عنهم.

وقالت الرابطة، في بيان صادر عنها: "تتوالى وقفاتنا منذ سبعة أعوام ومازال 60 مخفيًا قسريًا من أبنائنا في غياهب المجهول، ولا نعلم عنهم شيئًا، ولا نرى إلا المماطلة والتجاهل المستمرين من قبل الجهات المعنية، والجهات الأممية والدولية".

وأكدت الرابطة مطالبتهم المستمرة بإظهار المختفين قسريًا، والإفراج عنهم، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات بحقهم.

وحملت أمهات المختطفين الجهات المعنية باختفاء أبنائهن، المسؤولية الكاملة عن حياتهم وسلامتهم.

وتبقى قضية الاختفاء القسري من القضايا التي تؤرق الأسر الذين يعيشون أقسى لحظات الانتظار لمعرفة مصير ذويهم الذين اختفوا برمشة عين منذ سنوات، وأصبحوا تائهين بين عبارة "ليسوا أحياء وليسوا أموات".

كما تظل تلك الأسر تحسب الوقت بالثواني والدقائق والساعات والأيام والأسابيع والأشهر والسنوات، على أمل اللقاء بذويهم الذين لا يعرفون مصيرهم.