‏«اضرب الولد كف علشان تربيه»: عن الحب في التربية

قصة حقيقية. حكاها لي بروفيسور ألماني مشهور، كريستيان فايفر، المدير ‏السابق لمعهد البحوث الجنائية في الولاية ‏الألمانية ساكسونيا السفلى، ووزير ‏الداخلية السابق فيها ‏‎ ‎في الفترة بين 2000-2003.‏

التقيته في مطار زيوريخ عام 2018 بعد عودتي من رحلة عمل إلى الولايات ‏المتحدة، ألقيت فيها سلسلة من المحاضرات ‏في عدد من الجامعات الأمريكية. ‏

كان قد قرأ كتابي عن الإسلام السياسي، الذي نشر في نفس العام، وعبر عن رغبته ‏في لقائي. ‏

لم نجد فسحة للقاء إلا بعد هبوطي من الطائرة. هو في ترانزيت في مطار ‏زيوريخ، وأنا متجهة إلى مدينتي بيرن. ‏

وبادرني بعبارة استوقفتني كثيرا فيما بعد. ‏

‏"ماذا عن دور الحب في التربية؟"‏

ماذا عنه؟ سألت نفسي مستغربة لها. خاصة وأن كتابي يتحدث عن ‏الأيدولوجية الإسلامية الأصولية في صورها ‏المتعددة، ودورها في التطرف.‏

بيد أن عبارته مهمه.‏

‏ أراد من خلالها التنبيه إلى دور التنشئة الاجتماعية والعوامل النفسية في تيسير ‏التطرف والأدلجة. ‏

لكن هذا موضوع اخر. ‏

ما يعنينا في مقال اليوم هو موضوع الحب في التربية. ‏

وهو ما يحيلنا إلى القصة التي حكاها لي البروفيسور فايفر، ونشرها فيما بعد في ‏عام 2020 في كتابه بعنوان "ضد ‏العنف: لماذا الحب والعدالة هما أفضل سلاح ‏لنا".‏

‏-----‏

‏ حادثة وقعت في المانيا في خريف عام 1978. ‏

في ذلك الوقت، أعلن مجلس أمناء المؤسسة المسؤولة عن منح جائزة السلام ‏لاتحاد تجارة الكتب الألمانية‎ ‎، أن مؤلفة كتب ‏الأطفال المشهورة عالميا، أستريد ‏ليندغرين (مبتكرة شخصية الأطفال المحبوبة بيبي الشقية)، ستحصل على ‏الجائزة ‏الكبرى في 28 أكتوبر من نفس العام. ‏

في بداية أكتوبر، وبناءً على طلب اللجنة، أرسلت المؤلفة نسخة من خطابها، ‏الذي من المفترض ان تلقيه عند قبول ‏الجائرة. ‏

بيد أن شيئا حدث بعد ذلك ربما يكون فريدا في تاريخ جائرة السلام.‏

‏ كتب رئيس مجلس الأمناء إلى المؤلفة يطلب منها قبول الجائرة دون إلقاء ‏الخطاب. وبرر ذلك بأن محتوى الخطاب كان ‏فيه استفزازاً كبيراً جدا للشعب ‏الألماني والجمهور الحاضر في حفل توزيع الجوائز. ‏

كانت إجابة أستريد ليندغرين على مجلس أمناء المؤسسة لا هوادة فيها. ‏

‏ فهي لن تقبل الجائزة إلا إذا سُمح لها بإلقاء الخطاب المقدم دون تغيير. ‏

أضطر رئيس مجلس الأمناء إلى زيارتها في ستوكهولم وبعد محادثة طويلة، ‏تمكنت من إقناعه. ‏

 

ولكن ما الذي كان مستفزا في هذا الخطاب إلى هذا الحد؟

 

ركزت أستريد ليندغرين في خطابها على مطلب جوهري: " ‏‎‘‎لا‎’‎‏ أبدية للعنف ضد ‏الأطفال!"‏

فالعنف يولد العنف. تقول المؤلفة. ‏

‏"والطغاة والديكتاتوريين والظالمين والمعتدين على البشر في العالم تم تنشئتهم ‏بصورة سلبية في طفولتهم من خلال ‏تجارب العنف القاسية". ‏

ولذا، شددت ليندغرين في خطابها، على الأهمية المركزية لحب الوالدين لتنمية ‏الأطفال. ‏

 

قالت: " لا يوجد في أي طفل حديث الولادة بذرة ينبت منها حتماً الخير أو الشر. ‏ما إذا كان الطفل سينمو ليكون شخصاً ‏طيب القلب ومنفتحاً وموثوقاً به ولديه ‏شعور بالصالح العام، أو إلى شخص بارد ومدمر وأناني، يتم تحديده من قبل أولئك ‏‏الذين يُؤتمن عليهم في هذا العالم، اعتمادًا على ما إذا كانوا قادرين على إظهار ‏الحب له/لها او عدم فعل ذلك". ‏

 

‏**‏

انتهت القصة. ‏

استغربت وأنا استمع إليه.‏

كيف يمكن لمثل هذه الرسالة البسيطة والبديهية ان تمثل استفزازا للجمهور ‏الألماني؟ ‏

لا تضربوا الأطفال. بل أحبوهم!‏

لكنها كانت فترة زمنية أخرى. ‏

وهي تظهر لنا أنه إلى ذلك الحين، كان ضرب الأطفال كأسلوب للتربية متعارف ‏عليه في ألمانيا. ‏

وفي الواقع، وكما تظهر الدراسات والإحصائيات التي قام بها البروفيسور فايفر، ‏فإن تراجع ضرب الأطفال كأسلوب ‏للتربية في البيت والمدرسة لم يحدث فعلاً إلا ‏في التسعينات من القرن الماضي. ‏

 

‏***‏

تذكرت هذا الحديث والقصة وكتاب البروفيسور فايفر، وأنا اتابع حلقتي جعفر ‏توك في دويتشه ويله العربية بعنوان "بأي حق تقرر الدولة الألمانية أخذ أولادي ‏مني؟". ‏

البرنامج يتحدث عن قيام الدولة الألمانية في الحالات القصوى، وأشدد في ‏الحالات القصوى، بسحب الأطفال من أسرهم ‏لحمايتهم، في حال تعرضهم إلى ‏الضرب والإهمال، والتعنيف أو الأذى النفسي او الاستغلال الجنسي. ويركز على ‏حالة ‏حدثت لأسرة سورية لاجئة. ‏

وصدمني قول أحد المتحدثين، الذي وصفه البرنامج ب"الناشط"، رغم أن جل ‏حديثه كان عبارة عن ترويج لشائعات ‏بدون أدلة على صحتها. ‏

صدمني قوله في حديثه الموجه إلى مسؤول من إدارة الشباب (اليوجند أمت): ‏‏"هل تعتقد ان هذا القانون الذي يسمح‏‎ ‎بإرهاب الأطفال وسحبهم من داخل ‏اسرهم ولا يسمح للعائلة ضرب الولد كف من اجل تربيته، هل هذا قانون؟" ‏

صدمني قوله. ‏

الدولة هنا، وكما أظهر البرنامج بفضل حرفية الصحافي جعفر، لا تسحب ‏الأطفال من أهلهم.‏

هي تتدخل لحمايتهم من عنف أو أذى أو إهمال. ‏

وعبارة "الناشط"، "لا يسمح للعائلة بضرب الولد كف من أجل تربيته"، ‏افصحت عن قناعته: ضرب الطفل كفاً لا يمثل ‏عنفاً!‏

**

كم منكم ومنكن تعرض للضرب من أهله؟

كم منكم يضرب ابنه أو أبنته؟ ‏

كم منكن تصفع فلذة أكبادها؟ ‏

كم منا يعتقد أن ضرب الولد والبنت كفاً مسألة بسيطة؟

كم منا يعتقد أن ضرب الطفل ضروري لتربيته؟

لاحظا عزيزي القارئ عزيزتي القارئة أنى تعمدت في البداية ان اظهر ان استخدام ‏العنف في التربية كان امراً مقبولاً في ‏المانيا في القرن الماضي.‏‎ ‎

‏ لكنه، وبعد مسار تعلم ومراجعة ذات، لم يعد مقبولاً اليوم.‏

يسموه اليوم كما يجب ان يسمى: عنفاً. ‏

**

‏ كلنا إنسان.‏

في الخير إنسان. ‏

وفي الضعف إنسان. ‏

والضعف يؤذي. ‏

‏ نتعلم من ضعفنا واخطائنا. ‏

وحبذا لو تعلمنا ذلك اليوم. ‏

والمسالة في النهاية ترتبط بمستقبل هذا الطفل وتلك الطفلة، فلذات أكبادنا، ‏وحقهما في تربية خالية من الترهيب. خالية من ‏الخوف. خالية من العنف. ‏

حقهما في تربية مشبعة بالحب. ‏

أقول الحب. ولا أعني التدليل. ‏

أقول الحب. ولا أعني الدلع. ‏

كم مرة استمعتما فعلاً إلى الطفل وهو يتحدث إليكما؟ استمعتما إليه بحب ‏واحترام؟ ‏

يسأل سؤالا؟ وتجيباه على السؤال؟ بدلاً من نهشه؟ ‏

كم مرة أخطأ فيها الطفل وشرحتما له منبع الخطأ؟

كم مرة امتنعتما عن ضرب الطفل كأسلوب للعقاب؟ ‏

كم مرة اخذتما الطفل في حضنكما وهو يبكي؟

 

أسألكما وأردد تلك العبارة، أوجهها لنا نحن: "ماذا عن دور الحب في التربية؟"‏

 

فمن المؤكد أننا نحب أطفالنا. ‏

هذا امر لا اشك فيه. ‏

كلنا بشر. ‏

لكن الكثير منا أعتاد على الضرب في التربية، كما أعتاد هو أو هي على ضرب والديه ‏له أو لها في الطفولة. ‏

والبعض يعتقد أن الضرب فيه فوائد للتربية. ‏

وهناك من يقدم تبريرات دينية لضرب الأطفال. ‏

وهؤلاء مخطئون. ‏

وفي الواقع فإن هناك مجموعة كبيرة من الأبحاث في العلوم الاجتماعية التي ‏تسلط الضوء على الآثار الضارة للضرب أو ‏العقاب البدني على نمو الأطفال ‏ورفاههم وسلامتهم النفسية والجسدية، ومقدرتهم على التحصيل العلمي، في ‏طفولتهم وفي ‏المستقبل. ‏

‏ وعلي سبيل المثال لا الحصر: الضرب ينعكس بشكل سلبي على نفسية الطفل، ‏ويجعله عدوانيا، إذ يعتبر أن الضرب هو ‏وسيلة لحل النزاعات، وقد يؤثر على ‏صحته العقلية، وإصابته بالقلق والاكتئاب وتدني احترام الذات. ‏

كما أنها تؤدي إلى ضعف النمو المعرفي للطفل وانخفاض قدراته على حل ‏المشكلات، وانخفاض اداءه في المدرسة ‏مقارنة بالأطفال الذي يتم تأديبهم من ‏خلال وسائل غير عنيفة. ‏

والأهم أن الطفل يتربى في بيئة خوف، وهو ما يؤثر على علاقته مع والديه ‏وغياب الثقة. ‏

**

الحب لا يكسر ضلعا.‏

الحب لا يجرح نفساً أو يهينها. ‏

الحب كالبلسم. ‏

كالنبتة في ارض خصبة. ‏

تنمو وتترعرع لتصبح شجرة مثمرة. تثمر لنفسها ولمن زرعها ورعاها. ‏

ومن عرف الحب في طفولته، يعرف كيف يحب نفسه ويحب غيره. وكيف يرد ‏الحب لمن أحبه. ‏

العنف، كما اصرت مبتكرة شخصية بيبي الشقية، يولد العنف.. ‏

مسألة بديهية. ‏

وضرب الطفل كفاً نسميه عنفاً. ‏

تخيل نفسك تضرب حيواناً وتصفعه على وجهه. ‏

كيف ستكون ردة فعل من حولك؟ ‏

فما بالك بصفع الطفل؟

 

‏ العنف لا يولد الحب.‏

‏ ففاقد الشيء لا يعطيه. ‏

ولذا أحبوا اطفالكم. ‏

لا تضربوهم. ‏

وقولوا كما قالت أستريد ليندغرين في خطابها: " ‏‎‘‎لا‎’‎‏ أبدية للعنف ضد الأطفال!"‏