عدن.. منها وإليها وفيها

مشكلة من يهيمون بحب عدن المدينة، أنهم بلا عُصبة تجمعهم كلهم، ولا يمكن لنبيه إلا أن يدرك الحقيقة الساطعة، التي لا تحتاج لسفسطة أو جدال أو هُدار، فمعظم قاطني المدينة ينحدرون من مناطق مختلفة في وطن الكل، وبينهم من أتى إليها أجدادهم أو أبائهم، من خلف البحار والمحيطات، فوجدوا فيها الرزق الوفير، والأمان المطلوب، والعشرة الطيبة، فطاب لهم الإستقرار والإندماج فيها، مع من سبقوهم في الوجود التاريخي فيها، أو التوافد المتتالي إليها (بإستثناء من في نفوسهم مرض) وخلف القادمون ورائهم من ورثوا عنهم حب المكان الدافئ، والأخيرين بدورهم فعلوا الشئ ذاته.

وعليه لا يمكن إلا للئيم أن ينكر أفضال أمه الرؤوم، أو يحرض على تلطيخ سمعتها، أو تشويه جمالها، أو طمس معالمها، أو كره من تكيفوا مع نمط ونظم وتحضر ومدينية الحياة فيها، وضمنوا العيش الكريم في رحابها، وقرروا برضاء تام بأن تكون موطنهم الأبدي، ولأنسالهم من بعدهم، الذين سيقتفون نقوش أقدامهم على دروبها ورمالها، وقد عمدوا/ غطسوا أنفسهم ببحرها المبارك، وسيورثون الحب منها ومن (كل) من طابت نفوسهم السمحة فيها.

حتى وأن ضاق بهم الحال يومًا لسبب قاس، فعدن على حد وصف أشقائنا العراقيين، الذين حلوا ضيوف عليها لزمن "حبابه"، وقد أختار نفر منهم البقاء فيها، اي أنها حسب تعرفينا الجمعي لها حبوبة تُجنن، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك، كما لا يمكن إلا لوافد متعصب لأصوله/ جذوره أن يكرهها ولوحده فقط، وفي ذات الوقت يحاول إغصاب نفسه على "تكَعَّف" العيش فيها، ويبقي على بغضه (لأسباب تخصه) ضد من يهيمون حباَ بها، وينشد بصورة تلقائية إلى من هم على شاكلته، وإن كنت ولا زلت أراهن بأن روح المدينة وسماحة أهلها، ستغير قناعته (مع مرور الأيام أو الشهور أو السنين، أو سيقفل عائداً إلى من حيث أتى، كما فعل- بحكم المؤكد - غيره من قبل) ولن يطيل إنعزاله عنها كثيراً..

فيما لا يمكن لأي مدني متحضر، ومديني حقيقي، أن يفكر بإنتهاج نفس السلوك المرفوض، فالعدني/ المدني الأصيل لا يمكن له إلا أن يود ويعز كل من يقاسمونه ولهه لها، وتذوق لقمة العيش والملح فيها، ومرحب دائم بكل ضيف خفيف يقدم إليها، وهو ذات العدني/ المدني الملتزم بقوانينها ونظمها وقواعدها، والتآخي والتراضي فيها، بصرف النظر عن تنامي الخروقات عن جهالة، من قبل من لم يقتنعوا بعد، أو يستوعبوا التكيف فيها، رغم مضي زمن كاف على وصولهم إليها، فبحرها لوحده يؤنسن من يناجيه، ومن يكذب يجرب، ليكتشف الفرق العظيم.

وعليه أقول للأحبة الغيورين، أن عصبة عدن الحقيقية المدنية المدينية الإنسانية العصرية، لا يمكن لها أن تتجسد كواقع معاش (كما كانت ونتمنى الأفضل) إلا بتلاشي كل عصبيات التجهيل الوافدة إليها، مع العلم بأن في الماضي كانت هناك منغصات أيضاً، إلا أنها لم تفقد تفرد عدن بين مدن الوطن، بل كانت من أشهر مدن/ دُرر العالم، واليوم تعيش (مع شديد الأسف) على الذكريات الجميلة فقط، ولا ينبغي أن نفقد الأمل!؟ .