مقهى كافيه كورنر في صنعاء
مقهى كافيه كورنر في صنعاء (فيسبوك)

عن حياة مرت هنا.. كافيه كورنر

أمشي في شوارع صنعاء كعجوز في سنوات شيخوخته يمر على الحياة ليعب منها نَفسه الأخير، حيث تشهق حواسه بذكرياته القديمة، وهو يعيد تمزج الحياة التي عاشها في ما مضى، والحياة التي تمضي الآن؛ وكعجوز حذر، تتنقل عيناي ما بين وجوه المارة المتعبة والمنازل الحجرية والبيوت الأسمنية والدكاكين والمحلات والمولات وتقاطعات الشوارع، وكأني أنفذ من شقوق المدينة إلى طبقاتها الأعمق، الساكنة، المتقلقلة، مثلي، ثم وأنا هناك أتتبع مجرى الحياة المتدفق، ذلك السيلان العجيب من الروائح والأصوات بلهجات البلاد المتنوعة التي تميز حياة العاصمة.

النهار الغائم يمنحني طاقة منعشة للاستمرار بالمشي، نزولًا من تفرع شارع هائل وحتى الدائري، الشارع الفسيح الذي يضج بالطلاب والعمال والباعة الجوالين، والمارة مثلي الذين يمشون لأن لا شيء ينتظرهم، إلى الأمام، مسافات أخرى يا بشرى، أقول لنفسي، أحدق في الوجوه والأمكنة، فيما تصر أذناي، وتواصل الأصوات صخبها، عالم آخر من الأصوات يخصني، عالم موازٍ من الضجيج، ثم صوت تكتكة مسمار يتحرك في رأسي، أسفل الجمجمة، يتصاعد مع كل خطوة، لكن قدميَّ تأخذانني في إحدى لحظات جموحها القليلة، في اتجاه كافيه كوفي كونر.

من بعيد، ترصد عيناي ما كان بوابة الكافيه، أو هكذا يخيل لي من موقعي، إذ يفصلنا شارع وزحام وسيارات يطلق سائقوها الغاضبون زموراتهم في اتجاه المارة، أواصل السير على الرصيف، ثم وأنا أقف أخيرًا في نهاية شارع الدائري الجنوبي، أراقب السيارات التي تأتي من شوارع عديدة، شمالًا قادمة من شارع حدة الذي يمتد بشكل عرضي، أو من أعلى شارع حدة، من شارع الحديقة، أو القادمة من شارع الجزائر، الذي تمتد على ضفتيه مولات وشركات تجارية كبرى، ففي هذا المربع الجغرافي، كان القلب التجاري لصنعاء في زمن مضى، وفي الأحياء الخلفية المتفرعة من هذين الشارعين، تنتصب فلل الطبقة القديمة من أغنياء العاصمة، بأسوارها العالية، الأزهار المعلقة على الأسوار تحجب أنظار المارة، الكلاب المدللة التي كنت تصادفها أحيانًا في الأرصفة، الهدوء الساحر الذي يدفعك إلى ترقب تلك الحياة المخملية التي انقضت، ولا تعرف ما حدث لأصحابها الآن.

في وقوفي في نهاية شارع الدائري الجنوبي، بالتقاطع مع شارع الجزائر، حيث تقوم جولة فسيحة تزدحم فيها السيارات القادمة من اتجاهات متعددة، يقابلني في الجهة اليمنى مبنى الأمانة العامة للمؤتمر الشعبي العام، الحزب الحاكم سابقًا، المبنى الذي احترقت واجهته مرات عدة في سنوات الحرب، تحتل واجهته الآن أعلام جماعة الحوثي، وصور مقاتليها، فيما توارت لافتة الحزب إلى الخلف، في سخرية هزلية لصراعات الدم، وتعاقب الكوارث على هذه البلاد، على يسار مبنى الأمانة لحزب المؤتمر، وفي الشارع المقابل، يقع كافيه كوفي كورنر، حيث كانت بوابته مشرعة للزائرين، أعلى الباب الحديدي الأسود، كان يمكنك في ما مضى رؤية عقد دائري من الورود، ولافتة صغيرة رسم عليها كوب قهوة ستُحب أن تشربها على مهل، اختفت البوابة الأمامية للمقهى، والحارس الشاب الذي كان يرتدي بدلة سوداء أنيقة، والحياة التي كانت هنا.

من داخل مقهى كافي كورنر صنعاء 2018
من داخل مقهى كافي كورنر صنعاء 2018 (صفحة المقهى على فيسبوك)

أقتربُ من الكافيه مارةً بمشتلٍ للأزهار، حيث كنا نشتري منه أصص الأزهار والورود أنا وصادق في سنوات زواجنا الأولى، قبل الحرب، المشتل لايزال في مكانه يقاوم جدب الحياة، لكني وأنا أوزع عيني على المكان، على الزمن الآن، على الواجهة، والذكريات أيضًا، أعرف أن الحرب فعلت الكثير، ليس بالبشر فقط، وإنما بالأمكنة، الجدران، المباني، الفضاء المدني والمكاني، بالجمال الذي كان يميز صنعاء، مقاهيها التي كانت تشتهر بها، والتي كان يقصدها القادمون من المدن، الحيز الاجتماعي للتفاعل والترفيه والتأمل، المقاهي والكافياهات التي أصبحت أنقاضًا لخراب معمم، خراب يمكنك أن تشمه وتلمسه، وتراه بعينيك بينما تستعيد ذكرياتك، لكن هل تستطيع الكتابة اختزال خراب الأمكنة، أن توثق ذلك العمى الحزين الذي طوى الذكريات الجميلة وتدفق الحياة، وحصرها في سواد دائم كجدار، أمرن عينيّ على تحولات الحياة، على بشاعة الآسن، على جدار الأسمنت الذي قسم كافيه كورنر، وقوض معالم المكان.

في زمن مضى، كانت هنا بوابة أمامية، تطل على شارع الجزائر، تستطيع أن تراها من بعيد، حيث تحث إليه الخطى المنسابة من الشوارع والأزقة في أي وقت، صباحًا أو مساء، أو في الظهيرات اللاهبة، هنا كان يقف حارس مرح، شاب أسمر يقابلك بابتسامة عريضة، وهو يفتش حقيبتك بهمة فاترة في أحيان كثيرة، ويعقد حاجبيه إن رأى قنينة ما نجحت في إدخالها إلى الكافيه، سيصادفك، وأنت تدلف من الباب، باحة من نصف متر مفروشة بحجارة صغيرة، ثم سيأسرك فضاء الكافيه، البشر والمكان، الهدوء والألفة..

في الجهتين اليمنى واليسرى، تتوزع طاولات وكراسي مظللة بشمسيات ملونة، انتظمت في مسافات هندسية موزعة تضفي سحرًا على المكان، وبالقرب منها، توزعت جزر صغيرة زرعت بالأزهار والورود والعشب، وفي الوسط تمامًا، ينتصب مبنى بني بحجارة قديمة، ثم درجات رخامية ستقودك إلى داخل المبنى، سترى آلة القهوة والكابتشينو والسبرسو على منضدة طويلة رخامية سوداء، وخلفها ارتصت أنواع القهوة والمشروبات، ثم ستتعقب عيناك العمال بأزيائهم السوداء ومناديلهم البيضاء التي رسم عليها لوجو المقهى، وهم يتحركون كالنحل، ستعبق رائحة القهوة، وتقودك من منخريك لألفة الزمن الغابر..

حياة مرت من كافيه كورنر
حياة مرت من كافيه كورنر (شبكات تواصل)

الغرف الجانبية التي تتوزع داخل المبنى، والتي يتنوع ديكورها الأنيق، بتنوع حياة مضت، ستدهشك طراوة الأرائك الحمراء الوثيرة التي ستمنحك تأملًا مريحًا، وفي الجدار، ستقابلك الستارة الصنعانية، لتبهرك عراقة تاريخ لم ينقض رغم النوائب، ثم ستفضي نهاية درج المبنى إلى الباحة الخلفية، سترى البوابة الحديدية الكبيرة التي كانت تدلف منها سيارات فارهة لفتيات وفتيان من علية القوم، وعلى يمين البوابة، سيقابلك مبنى صغير مستقل، بواجهة زجاجية، هي مكتبة الكافيه، حيث كانت تتوزع على الأرفف، كتب وروايات عربية وأجنبية مترجمة، وروايات لروائيين يمنيين، وسترى في واجهة الجدار لوحة باذخة لفنان سوداني، معروضة للبيع، وستتبدل اللوحات كل أسبوع. في المكتبة، سيبادرك في ذلك الزمن المنقضي، شاب مثقف يسألك عن الكتاب الذي ستقرأه، وسترى أريكة حمراء وثيرة، يجلس خلفها أحد القراء، وبيده كتاب ما، سيأخذك دفء المكان ورائحة الكتب والقهوة إلى أزمنة سعيدة هانئة.

في ذلك الزمن المنقضي، الزمن الذي تسلل منك خلسة، بينما كبرت، كنت ستخرج من مكتبة الكافيه إلى الباحة الخلفية، سيقابلك رجل أربعيني يسقي الأزهار بمحبة، وهو يتنقل بمرشة الماء من مكان إلى آخر، وستطالعك طاولات وكراسي كان يجلس عليها شبان وفتيات لا تعرف أين أخذتهم الحياة والحرب الآن، هنا كان يدور جزء من مظاهر الحياة الثقافية والسياسية لصنعاء في زمن ما قبل الحرب، الذي أراه بعيدًا الآن، وكأن سنين ضوئية تفصلنا عن تلك الحياة، وفي تلك الحياة التي كانت تضج في الكافيه، في الحديقة الفسيحة المنمقة بأزهار وورود مشذبة..

حيث يمكنك أن ترى السماء وأنت تجلس في كرسيك الوثير، خلف طاولة للكتابة ومقابلة الأصدقاء، فيما تظللك مظلة زاهية، أو حين تغيم السماء وتمطر، فتحاول أن تجد لك مقعدًا في غرف مبنى الكافيه، سترى شعراء وصحفيي العاصمة منهمكين خلف لابتوباتهم، يكتبون، أو يقرؤون، سترى الزاوية الأثيرة التي كان يجلس عليها الصحفي جمال جبران، يكتب مستغرقًا في جهاز لابتوبه، سترى الأستاذ الأديب أحمد قاسم دماج، بقامته النحيلة، وبابتسامته التي ستظللك بدفئها، وهو يدلف في مغرب كل يوم، مع ابنه مطيع، ومثقفين شباب إلى جواره، إلى المقهى، يتخذون أماكنهم خلف الطاولة الكبيرة، سترى صحفيين وكتابًا أجانب، فرنسيين وأمريكيين، ومن جنسيات أخرى، محبين لصنعاء، يسألون عن فن العمارة في صنعاء القديمة، سترى الصحفية تانيا هولم[1] التي هامت بصنعاء، وعاشت فيها سنوات طويلة قبل الحرب، سترى المخرجة خديجة السلامي، القادمة من باريس، مشغولة بفكرة فيلم جديد، ستقابلها هنا بمحبة، وسترى أيضًا رجالًا يعقدون صفقات عمل، فيما يتردد صدى خفيف لأغنية بوب مارلي، وهنا وفي هذا الكافيه بتنوع البشر، سترى تنوع الطبقات والحياة في عاصمة جرفها الطوفان، وهنا وفي هذا الكافيه، وفي الطاولة، قرب الدرج، وقرب الأزهار، كنت أجلس، أكتب، في الزمن القديم الذي كنت فيه معهم، بينما أتطلع للمارة والعابرين، للأصدقاء الذين تفرقوا الآن في بلدان الشتات.

أفتح عيني الآن على زمن آخر، الجدران الأسمنية التي أخذت أكثر من نصف الكافيه، الغياب الذي أخذ الوجوه الأليفة، الأصدقاء والثرثرات، أنتبه لشاب مسلح يدلف من البوابة الخلفية التي بقيت بعد إغلاق البوابة الأمامية، يتبعه رجل ذو كرش ناتئ، يتطلع حوله بقلق، وأفكر بمعنى آخر للخراب الذي نعيشه، أسند رأسي على المقعد في متاهة الأسمنت الصغيرة، وأبتسم لصادق، ثم أتأمل فتور العامل وهو يضع في الطاولة فنجاني قهوة لكلينا، بينما ننتظر أصدقاء، الصمت المطبق على المكان في ظهيرة الحرب، يدفعني للانكفاء، السفر لزمن أقرب، زمن الحرب.

كانت آخر زيارة لي لكافيه كوفي كورنر، في أبريل 2015، العام الأول للحرب، كانت غارات الطيران تدوي في سماء صنعاء، المدينة خالية، وتقفر من ناسها، سيارت على مدى البصر، محملة بالحقائب والأثاث، في مشهد نزوح لم يمر على تاريخ المدينة، لا كهرباء في المدينة، لا كهرباء في البيت، أنا وصادق في كوفي كورنر، خلف مقعد لم يعد هنا، أبدأ في كتابة مقالة، فيما تتعالى نقاشات صحفيين وكتاب عن توقعاتهم لمسار الحرب، قبل أن يغادر معظمهم إلى عواصم الشتات، كانت حينها الحياة تومض قليلًا قبل أن تنطفئ.

إغلاق الكافيه من قبل السلطات المحلية للحوثيين في صنعاء
إغلاق الكافيه من قبل السلطات المحلية للحوثيين في صنعاء 2020 (شبكات تواصل)

ما الذي تفعله الحرب بالأمكنة والذكريات؟ بالزمن الذي مضى، والزمن الذي يمضي الآن، إنها تقوض، تزيل، تطوي، في تاريخي المقتضب والعابر لكوفيه كورنر، تاريخ هو في الأخير يخصني، وليس سجلًا توثيقيًا دقيقًا لتحولات المكان، سأذكر أنه في العام الثاني من الحرب، دُمر جزء من واجهة جدار الكافيه، بعد غارة لطيران التحالف على مبنى حزب المؤتمر الشعبي، المقابل للمقهى، ثم في شهر آخر، من العام نفسه، كما أعتقد، شظايا صاروخ قتلت عاملًا شابًا في مكتبة الكافيه، وحين انفجر الصراع بين المقاتلين في أحداث صنعاء، ديسمبر 2017، دُمر جزء من الكافيه، لكن حربًا أخرى أتت على ما تبقى من وجوه الحياة هنا، المقاهي، والكافيهات، إذ أغلقت[2] سلطة الجماعة كافيهات عديدة في المدينة، تحت ذريعة محاربة الاختلاط بين الجنسين، طرد البشر من مساحة بالكاد تكفي لشرب فنجان قهوة، إلى جبهات القتال، أو إلى بيوتهم، لتكتم جدران المنع والفصل والطائفة على أنفاسهم.

 

 -[1] تانيا هولم، صحفية سويدية عاشت في اليمن، وألفت كتابًا مهمًا عن الأوضاع السياسية ما قبل الحرب.

- [2] 22 فبراير 2020: إغلاق مقهى كافيه أوفيليا للنساء في شارع بغداد. مون كافيه: مطلع مايو 2017، داهم مسلحون المقهى وأغلقوه. مقهى بن وقشر: أغلق في العاشر من سبتمبر 2017.