عن القانون المدني: قضية الطفل شنودة

إذن.‏

قضيتان.‏

حدثت الأولى في مسجد معروف بسويسرا.‏

والثانية عن الطفل شنودة في مصر.‏

ويجمعهما هم واحد: القانون المدني!‏

ذاك الذي يحمي حقوق المواطنة المتساوية.‏

 

في المقال السابق، عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، حدثتكما عن حالات الزواج القسري لقاصرات، ‏حدثت في مسجد معروف في العاصمة بيرن.‏

زيجات دينية، لم تحترم القانون المدني السويسري، الذي يعكس جوهرًا وفعلًا مضمون المادة السادسة ‏عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.‏

بكلمات أخرى، ينص القانون على أن الزواج يتم بين شخصين أدركا سن البلوغ (أي الثامنة عشرة)، دون ‏أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين، وأن هذا الزواج‎ ‎لا يُعقَد إلاَّ برضا الطرفين المزمع زواجهما ‏رضاءً كاملًا لا إكراهَ فيه‎.‎

ولضمان احترام هذا المضمون، وعدم انتهاكه، ينص القانون السويسري على أن يتم تسجيل الزواج مدنيًا ‏قبل عقد أي زواج ديني.‏

 

***

تلك كانت القضية الأولى.‏

القضية الثانية تتعلق بالطفل شنودة، الذي شغل وسائل الإعلام المصرية والعربية، وتحول إلى قضية ‏الساعة وحديث الشارع في مصر.‏

تفاصيلها معروفة.‏

بدأت عندما تقدمت سيدة ببلاغ إلى النيابة العامة، أنكرت فيه نسب الطفل شنودة إلى والديه بالتبني.‏

دافع البلاغ هو طمع السيدة. الطمع في ورث خالها، والد الطفل شنودة بالتبني.‏

كان الوالدان بالتبني وجدا الطفل عام 2018، وعمره يوم واحد، في دورة مياه إحدى الكنائس.‏

كلاهما مسيحيان.‏

ومحرومان من الإنجاب، ولذا جاء الطفل كـ"هدية من السماء"، على حد تعبير والدته بالتبني.‏

ونسباه إلى والده بالتبني فاروق، وأطلقا عليه اسم شنودة، وعاش كابنهما أربع سنوات.‏

لكن ابنة شقيقة الوالد خافت على ميراثها من خالها، فأقدمت على البلاغ.‏

 

مصر دولة عريقة في القدم. لكن قوانينها تظل هجينًا، بين ما هو مدني، وما هو شرعي.‏

وعادة ما تعاني الأقليات والنساء من هذا الهجين.‏

لاحظا ما حدث بعد البلاغ.‏

فتحت النيابة تحقيقًا، وخضعت الأسرة والطفل لتحليل الحمض النووي، الذي أثبت عدم بنوة الطفل للأسرة ‏المتبنية.‏

القانون المصري يعتبر فاقد الأهلية (أي من لم يعرف هوية والديه) "مسلمًا بالفطرة".‏

ولذا تقوم هيئة الأحوال المدنية التابعة لوزارة الداخلية بمصر، باختيار اسمًا ثلاثيًا، وتنسبه إلى الدين ‏الإسلامي.‏

القانون هنا لا يقف موقفًا محايدًا من المواطنين والمواطنات، بغض النظر عن دينهم ودينهن.‏

بل يبدو متحيزًا لدين الدولة؛ الإسلام.‏

ولذا، تم إصدار شهادة ميلاد جديدة للطفل، وغيرت اسم الطفل شنودة إلى يوسف، وتحويل ديانته إلى ‏الإسلام، رغم أنه تربى على دين والديه بالتبني المسيحي!‏

ثم أودعته في دار أيتام!‏

بعد ذلك، أحالت النيابة القضية إلى مفتي الجمهورية، بشأن ديانة الطفل، وأصدر الأزهر الشريف فتوى ‏أكدت على أن "ديانة الطفل مجهول النسب تصبح على دين من وجده".‏

وبناءً عليه، أصدرت النيابة العامة المصرية قرارًا بتسليم الطفل شنودة "مؤقتًا" للسيدة التي عثرت عليه، ‏كعائل له، بعد أن أخذت تعهدًا عليها بحسن رعايته، وكلفتها باستكمال إجراءات كفالته. وقررت النيابة ‏التوجيه بإعادة تسمية الطفل باسم مسيحي، بناءً على رأي مفتي الجمهورية وفتوى الأزهر.‏

 

دعيني، عزيزتي القارئة، أؤكد لك أولًا أني رحبت بفتوى الأزهر.‏

وفرحت بها.‏

رحبت بها وفرحت بها، عزيزي القارئ، لأنها منطقية وإنسانية.‏

الطفل على دين من وجده، وأحسن رعايته.‏

منطق إنساني رحيم.‏

لكنها لم تحل المعضلة الأساسية في كل هذه القضية. وهي أن القانون الهجين في مصر يظل متحيزًا ضد ‏المصريين والمصريات من غير أتباع الديانة الإسلامية.‏

تغيير اسم ودين الطفل، رغم أنه نشأ على الديانة المسيحية، أظهر لنا ذلك التحيز.‏

اللجوء إلى سلطة دينية مسلمة لحسم الأمر، يظهر ذلك التحيز جَليًا.‏

تخيلا لو أن تلك السلطة الدينية أرادت أن تتعنت، أو تتبع مذهبًا متطرفًا. وقررت أن تصر على أن فاقد ‏الأهلية "مسلم بالفطرة".‏

كيف كانت ستكون النتيجة؟

واللجوء إلى القانون العرفي في المناطق الريفية في الخلافات بين المسلمين والمسيحيين، رغم وجود ‏القانون المصري المدني، يظهر لنا ذلك التحيز، بخاصة وأن القانون العرفي في تطبيقه يظل متحيزًا ضد ‏الأقليات المصرية.‏

تمامًا كما أن الإصرار على مفهوم الكفالة لا التبني، بسبب موقف الشريعة من التبني، يظهر لنا ذلك ‏التحيز.‏

احترام المواطنة المتساوية لكل المصريين والمصريات، يتطلب وقفة جادة مع أنفسنا. والإقرار أن الوقت ‏قد حان لإصدار قوانين مدنية عادلة تتعامل مع كل المواطنين والمواطنات بحياد بغض النظر عن الدين أو ‏العرق أو الجنس.‏

ولعل قضية الطفل شنودة فرصة حانية لمراجعة نوعية القوانين التي نلجأ إليها في مجتمعاتنا.‏

فالقانون الذي لجأت إليه النيابة، هو الذي فرض عليها فرضًا تغيير اسم الطفل وديانته. ونزعه من حضانة ‏والديه بالتبني.‏

أما القانون المدني، إذا تأسس على مفاهيم تحترم كرامة الإنسان وحقوق المواطنة المتساوية، فكان سينظر ‏أولًا وأخيرًا إلى مصلحة الطفل. ذاك الذي وجدته أسرة وتبنته.‏

مصلحة الطفل أولًا وأخيرًا.‏

أيهما أفضل، أن يودع الطفل في دار أيتام، أم أن يترك في رعاية الأسرة التي أحبته ورعته كابنها منذ ‏ولادته؟

 

***

إذن، القضيتان متصلتان.‏

قضية الزواج القسري في سويسرا، والطفل شنودة في مصر.‏

يجمعهما هم واحد.‏

القانون المدني.‏

في سويسرا، كشفت لنا حالات الزواج القسري في المسجد، أهمية القانون المدني، الذي ينص على أن ‏الزواج يتم بين شخصين أدركا سن البلوغ (أي الثامنة عشرة)، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو ‏الدين، وأن هذا الزواج‎ ‎لا يُعقَد إلاَّ برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاءً كاملًا لا إكراهَ فيه‏‎.‎

وفي مصر، أظهرت لنا قضية شنودة أهمية مراجعة القوانين الهجينة التي نتعامل بها، وتبني قوانين مدنية ‏تحترم مفهوم المواطنة المتساوية قولًا وفعلًا.‏

القضيتان متصلتان.‏

يجمعهما هم واحد.‏

القانون المدني.‏

ذاك الذي يحمي مفهوم المواطنة المتساوية، والحقوق المتساوية: حقوق المرأة المتساوية، وحقوق ‏المواطنة المتساوية.‏