حرب التحذير من اللقاحات تفتك بأطفال اليمن

تطعيم الأطفال في اليمن (أرشيف منظمة الصحة العالمية)
تطعيم الأطفال في اليمن (أرشيف منظمة الصحة العالمية)

تهدد حملات التحذير من "خطورة اللقاحات" في اليمن، والتي يجري الترويج لها في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، بعودة أوبئة وأمراض سبق وتخلصت البلاد، إذ لم تقتصر على منع حملات التطعيم في المنازل، بل امتدت إلى التحذير من اللقاحات في المنابر وشبكات مواقع التواصل الاجتماعي، بزعم بأنها تسبب العقم، وليست آمنة، وأنها فكرة معادية هدفها الاستثمار والتجارة وتدمير المجتمع.

وقد أثارت تصريحات أخصائي أمراض الباطنية والأستاذ المساعد بكلية الطب جامعة صنعاء، ‏الدكتور عبد العزيز الديلمي، في ندوة أقامتها مؤسسة "بنيان التنموية"، الشهر قبل الماضي، ‏وحضرها رئيس وزراء حكومة صنعاء ووزير الصحة، والتي كانت تحمل عنوان "خطورة ‏التلقيحات على البشرية"، وتحت شعار "اللقاحات ليس آمنة ولا فعًّالة"، سخط الكثيرين، إذ قدم ‏اعتذاره أمام الجميع لأنه كان في يومٍ من الأيام راعيًا، وداعمًا، ومترأسا للجنة اللقاحات، كما ‏أعلن توبته بصيامه شهرين متتاليين تكفيرًا لذنبه، حد وصفه.‏

وتسببت الأفكار المغلوطة بشأن التلقيحات، التي يتم الترويج لها، والمبنية على أسس غير علمية، ‏بعودة ظهور الأمراض مجددًا في بعض المحافظات اليمنية، منها صعدة، صنعاء، عمران، ‏المحويت، الحديدة، وذمار، وقرى المرخام والعوارض والمغرزة في عزلة حجر اليماني التابعة ‏لمديرية المحابشة في محافظة حجة.‏

 

"جنى" تقتلها الحصبة‏

وفي محافظة حجة الواقعة في الشمال الغربي من العاصمة صنعاء، تحديدًا في عزلة قرية ‏العوارض بمديرية المحابشة، كانت قصة الطفلة جنى عادل فايد، التي أصيبت بمرض الحصبة ‏وهي لاتزال في عامها الأول.‏

يقول عادل (30 عامًا)، في حديثه لـ"النداء": "عانت ابنتي ثلاثة أيام في المنزل بسبب الحصبة، ‏ولأن ظروفي المادية متدهورة لم أتمكن من نقلها للمركز الصحي في ذلك الوقت"، وأردف ‏بالقول: "يبعد المركز عن منزلنا مسافة ساعة بالسيارة، وبالتالي كان ذلك حجر عثرة أمامي، ‏بسببه لم أستطع تطعيمها، خصوصًا وأن فرق التحصين لم تعد تصل لمنزلي منذ سنتين"‏

لم يستطع عادل نقل ابنته إلى المركز الطبي بسبب ظروفه المادية، ولكن بعد أن تسهلت الأمور ‏تمكن والدها من تحريك سيارته المركونة أمام المنزل منذ فترة، وتوجه مع زوجته إلى المركز ‏عند الساعة السابعة صباحًا.. لكن وبينما هما في الطريق لفظت ابنتهما أنفاسها الأخيرة، وهي بين ‏يدي والدتها التي كانت تتمسك بآخر خيوط الأمل لإنقاذ ابنتها الرضيعة.‏

ويذكر عادل أن زوجته بعد أن توفيت طفلتها دخلت في حالة حزن شديد لمدة شهرين، وكانت ‏رهينة دموع الخسارة التي ألمت بها، ويضيف: "عندما خسرت ابنتي تمنيت لو أنهيت حياتي ‏بيدي، ولكني صبرت على مصابي، وتذكرت أنه لايزال هناك أربعة من أطفالي بحاجة لي".‏

ويؤكد أن طفلته "جنى" كانت الوحيدة من بين إخوانها الأربعة التي لم يحصنها ضد الأمراض.‏

وفيات بالحصبة

طفل مصاب بمرض الحصبة
طفل مصاب بمرض الحصبة (صورة متداولة على شبكات مواقع التواصل الاجتماعي)

وبلغت وفيات الأطفال في مديرية المحابشة 10 أطفال، بحسب مشرف التحصين في المديرية ‏الدكتور أحمد الفصري، الذي يقول في حديثه لـ "النداء": "بعد انتشار وباء الحصبة ووجود 10 ‏وفيات بين الأطفال تراجع الكثير من الرافضين عن فكرهم المغلوط، وقاموا بتحصين أطفالهم".‏

ويؤكد الفصري أنه ومنذ عام 2017 وحتى اليوم توجد لديهم 10 مرافق صحية ضمن مشروع ‏‏"خارج الجدران"، تنطلق منها كل يوم خميس 10 فرق إلى المستويين الثاني والثالث لكل مرفق ‏في الزمام السكاني التابع له، وذلك لتقديم خدمات الصحة الإنجابية والتحصين والرعاية التكاملية ‏والتغذية.‏

كما نفذت حملة طوعية لتطعيم الأطفال في المديرية، يقول الفصري: "هناك تعاون كبير من ‏مكتب الصحة بالمحافظة ومكتب الصحة بالمديرية تجاه مكافحة هذا الوباء". ويضيف: "لقد قمنا ‏بتنفيذ حملة تطوعية، وانطلق 14 فريقًا من 14 مرفقًا صحيًا لما يقارب الشهر، وتم تطعيم أكثر ‏من 4000 طفل تحت سن الخامسة بلقاح الحصبة، وإعطاء فيتامين أ للحالات المصابة".‏

ويؤكد أنهم يقومون حاليًا بتنفيذ نشاط طارئ مكون من فريقين يقومون بالنزول الميداني اليومي ‏ولمدة شهر إلى المناطق التي انتشر فيها الوباء، وذلك لتقديم خدمات التحصين.‏

وبحسب مشرف التحصين في المديرية، فقد بلغت حالات الاشتباه بالحصبة ما بين 380 و400، ‏ومعظمها تظهر حالات "عنقز" أو ما يسمى "الحماق" أو "الجدري الكاذب".‏

ووفقًا لإحصائية نشرتها وزارة الصحة والسكان (التابعة للحكومة الشرعية)، فقد سجل خلال ‏العامين 228 حالة إصابة، 68 منها خلال عام 2021، و160 خلال عام 2022، يتركز معظمها ‏في المحافظات الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي.‏

عزل اليمن

ويعد ظهور الأمراض الوبائية في اليمن مجددًا من أشد المخاطر التي ستؤدي إلى ظهور جيل ‏معاق وضعيف، وهذا ما يؤكده أخصائي الصحة العامة والوبائيات الدكتور صلاح الصنعاني، إذ ‏يقول في تصريحه لـ"النداء": "من أشد المخاطر التي نعانيها، عودة ظهور الأمراض التي يمكن ‏الوقاية منها بالتحصين، مثل الشلل، والدفتيريا، والسعال الديكي، والكزاز، والحصبة".‏

ويشير الصنعاني إلى أنه كلما ازدادت التغطية التحصينية، قلت الأمراض. وكلما ضعفت التغطية ‏تضاعفت، وهو ما لوحظ مؤخرًا من عودة ظهور الأمراض التي تم التخلص منها، كشلل الأطفال ‏الذي أعلن خلو اليمن منه عام 2006.‏

ويقول:" تفاجأنا في عام 2020 بظهور حالات شلل من النوعين الأول والثاني، وهذا مؤشر ‏خطير، وخلف كل حالة ظاهرة هناك عشرات الحالات المخفية، مما سيؤدي إلى ظهور جيل معاق ‏ضعيف".‏

ويؤكد أن انتشار هذه الشائعات حول اللقاحات يؤثر على إقبال الناس على مراكز التحصين، وهو ‏ما سيؤدي إلى ضعف التغطية التحصينية وانتشار أكبر للأمراض، الأمر الذي سيؤدي بعد ذلك ‏إلى عزل اليمن عن بقية الدول، كونه سيكون مصدرًا للوباء.‏

ويشدد على ضرورة عدم الانجرار خلف "نظرية المؤامرة"، ويقول: "إن اليمن جزء من هذا ‏العالم، وأي ظهور للوباء سينقل بسهولة إلى الدول الأخرى، ولذا هم يخافون على أنفسهم، وليس ‏لديهم أية مصلحة من محاربة الشعب اليمني".‏

‏23 مليون طفل لم يتم تلقيحهم ‏

من جهة أخرى، ذكرت منظمة الصحة العالمية أن حالات شلل الأطفال في اليمن بلغت 189 حالة ‏مؤكدة في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، بينما وصلت حالات الإصابة بالحصبة لنحو 22.000، ‏أما عدد الوفيات بسبب الحصبة فوصل إلى 280. وأكدت  في تغريدة لها على الحساب ‏الرسمي بـ"تويتر"، أنه لايزال هناك نحو 23 مليون طفل لم يتم تلقيحهم في اليمن، وأغلبهم ‏يعيشون في مناطق صراع ومناطق نائية.‏

وأشارت المنظمة إلى أنه "في العقدين الماضيين، ما يقدر بنحو 293 ألف طفل في اليمن تم إنقاذهم بفضل ‏التلقيحات". مؤكدة أنه يمكنهم إنقاذ 74.500 حياة أخرى بحلول عام 2025، وذلك من خلال ‏التلقيح.‏

وفي ظل المخاوف المتزايدة من الحملات الإعلامية التي يقودها البعض، والتي تدعو لمنع تطعيم ‏الأطفال باللقاحات الأساسية، والترويج لأطروحات غير علمية وغير حقيقية حول اللقاحات، نددت ‏منظمة أطباء اليمن في المهجر بالتشجيع الممنهج من قبل السلطات الصحية في صنعاء لتلك ‏الحملة، وقالت في بيان صادر عنها: "إن تشجيع تلك الحملة سيؤدي إلى انخفاض تغطية ‏التطعيمات في المناطق المتضررة، مما سيؤدي إلى زيادة حالات الأمراض المشمولة باللقاح، مثل ‏التهاب السحايا والتهاب الرئة والدفتريا والسعال الديكي ومرض شلل الأطفال، التي يمكن أن ‏تتسبب في مضاعفات خطيرة تؤدي للموت وإعاقات دائمة".‏

وناشدت المنظمة أولياء الأمور المسارعة في تلقيح أطفالهم، وذلك لحمايتهم من الإصابة بمرض ‏قد يسبب مضاعفات خطيرة، كما ناشدت الأطباء رفع التوعية على تلقي اللقاحات وإزالة الشبهات ‏علميًا والرد على الشائعات مما يساعد على تعزيز المستوى المناعي للمجتمع.‏

وتبقى اللقاحات هي الأمل الوحيد للتقليل من مخاطر الأمراض القاتلة كالحصبة وشلل الأطفال ‏والدفتيريا (الخناق) والكزاز والنكاف والسعال الديكي وغيرها من الأمراض التي سوف ينتج ‏عنها جيل مريض في حال توقف أولياء الأمور عن إعطائهم جرعات التحصين واستسلموا ‏لشائعات التي ستساهم في قتل اطفالهم.‏