عندما ذهبت إلى الجنازة... الخطأ!

حسناً!‏
هي قصة محرجة. ‏
طريفة. لكنها محرجة. ‏
وكلما تذكرتها اجدني ابتسم، رغم انحناء رأسي الخجل. ‏

صديق لي. أخ لي. مصري مسيحي الديانة.‏

يعيش في سويسرا منذ أكثر من عقد.‏

وأعرفه منذ نحو 15 عامًا.‏

نعرف بعضنا من هموم تجمعنا، وقضايا ندافع عنها. وتحديدًا الدفاع عن حقوق المواطنة للأقليات في ‏مجتمعاتنا.‏

لكن المعرفة تحولت إلى محبة.‏

أعزه معزة أخ.‏

توفيت والدته في القاهرة في صيف 2021.‏

لم أتمكن من القيام بالواجب، وتعزيته حينها.‏

كان في القاهرة.‏

وكنت حينها في سويسرا أعد لرحلة بحث ميدانية لمشروع بحثي أعكف عليه منذ سنوات عن مخرجات ‏الانتفاضات العربية، استخدمت فيه حرب اليمن كدراسة حالة.‏

ما علينا.‏

بعد نحو أسبوع، بدأت عملي البحثي، سافرت إلى مصر، أجريت مقابلات عديدة، ولسبب تقني، تأخرت ‏تأشيرة السفر إلى سلطنة عمان، فغيرت من برنامجي، وسافرت إلى إسطنبول، تركيا، لإجراء مقابلات ‏جديدة.‏

عندما عدت إلى القاهرة، قرأت منشورًا لأخي الصديق على صفحته في "فيسبوك". كانت دعوة عامة ‏للأصدقاء والصديقات لحضور صلاة قداس ذكرى الأربعين لوالدته الغالية، في يوم السبت الموافق 21 ‏أغسطس 2021، في الكنيسة البطرسية بالعباسية.‏

وجدتها فرصة للقيام بالواجب.‏

وقررت الذهاب. ولم أبلغه.‏

استيقظت في الصباح الباكر، وطلبت تاكسي أووبر عبر تطبيقه الخاص، والذي يستدعي كتابه عنوان ‏الجهة التي يريدها الزبون أو الزبونة.‏

عندما استقللت التاكسي، سألت السائق إن كان يعرف الوجهة التي حددتها، الكنيسة البطرسية بالعباسية.‏

قال لي نعم. شعرت بالطمأنينة.‏

وصلنا إلى الشارع. أشار لي على البوابة، وقال لي: "هناك الكنيسة".‏

شكرته، ونزلت على الرصيف.‏

وجدت حراسة مشددة على الكنيسة.‏

حراسة ضرورية للأسف خوفًا من هجمات إرهابية جديدة.‏

ولعلكما تذكران، عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ، الانفجار الإجرامي الذي استهدف الكنيسة في قاعة ‏الصلاة أثناء قداس الأحد في ديسمبر 2016. مات 26 مصليًا ومصلية. بينهن وبينهم أطفال.‏

إذن، الحراسة ضرورية.‏

لذا لم أعترض عندما طلب مني الضابط في المدخل بطاقة الهوية.‏

قدمت له بطاقة هويتي السويسرية.‏

ليس لدي غيرها.‏

بطاقة الهوية السويسرية لا تشير إلى أية ديانة لحاملها.‏

فقط تشير إلى اسم الشخص، ومكان إقامته.‏

مواطن. مواطنة.‏

والدين لمن يؤمن.‏

نظر فيها، ورفع رأسه نحوي، وسألني عن ديانتي.‏

قلت له: "مسلمة".‏

كاد أن يعترض على دخولي الكنيسة.‏

قلت له: "أريد المشاركة في أربعين والدة زميل لي"، وفتحت له هاتفي النقال على صورة دعوة التأبين.‏

نظر إليَّ متشككًا، تحدث مع زملائه، وبعد أخذ ورد، ولأن منظري وسني ونوعي لا يوحون بالإرهاب، ‏تركوني أدخل بعد تفتيش دقيق.‏

شكرت لهم حرصهم على سلامة الحاضرين والحاضرات في الكنيسة.‏

ثم دخلت إلى باحة الكنيسة.‏

باحة كبيرة. فيها مبانٍ كثيرة.‏

سألت عن القداس، أشار أحدهم إلى مبنى كبير.‏

ذهبت إليه. وجدت أبوابًا عديدة. ولم أعرف الطريق.‏

رأيت مجموعة تتحرك في اتجاه باب، سألت أحدهم: "هل هنا صلاة ذكرى الأربعين"، رد الرجل الستيني ‏بالإيجاب بأدب جم. وقال لي: "نحن ذاهبون هناك، تفضلي معنا".‏

ذهبت معهم ممتنة. في البوابة وقف شاب ومعه قائمة بأسماء.‏

لا يدخل أي شخص إلا إذا كان على القائمة.‏

قلت له اسمى ليس في القائمة.‏

رفض دخولي.‏

لكن الرجل الستيني تدخل. واحتد وأصر عليه أن أدخل. فأدخلني كارهًا، مكرهًا.‏

شكرتهما، محرجة.‏

ودخلت. وجدت القاعة ممتلئة. فجلست في الخلف إلى جانب الموجودين، وأنا أتنفس الصعداء.‏

بحثت عيناي عن أخي الصديق.‏

لم أجده.‏

بدأ القسيس في التحدث فأنصت.‏

لولا أن حديثه كان منصبًا على "الفقيد".‏

‏"الفقيد؟" رددت لنفسي.‏

نظرت إلى أكاليل الزهور بالقرب من القسيس، وصورة كبيرة تتوسطها. صورة للفقيد. فعلًا.‏

ابتلعت ريقي ببطء. ثم تحولت إلى الشخص الجالس بجانبي، وسألته باللهجة المصرية، لهجتي أيضًا: "هو ‏ده قداس الأربعين للسيدة الفلانة الفلانية".‏

سؤال بلا معنى. طرحته وأنا أعرف جوابه.‏

نظر إلي مندهشًا، ورد بالنفي. بل قداس تأبين الفقيد، فلان الفلاني.‏

هززت رأسي. ببطء.‏

ثم استمعت قليلًا.‏

وبدأت بالتحرك، بهدوء، وأنا محنية الرأس، محرجة، ورغم ذلك شكرت حسن الأقدار التي جعلتني أجلس ‏في صف خلفي.‏

خرجت من القاعة، والشاب صاحب القائمة ينظر إلي بغضب.‏

كدت أعتذر له. لكني هززت رأسي محيية، واكتفيت بالصمت.‏

خارج القاعة، رأيت امرأة، قلت لها: "أبحث عن قداس الأربعين للفلانة الفلانية، في الكنيسة البطرسية في ‏العباسية. نظرت إلي في تفهم باسم.‏

ما كنت أجهله أن الكنيسة البطرسية، وهي من أهم الكنائس الموجودة في منطقة العباسية، وهي تقع ‏بالقرب من الكاتدرائية المرقسية. ومقر المرقسية يضم عددًا من الكنائس داخل أسوارها.‏

يعني بالعربي الفصيح ذهبت إلى الكنيسة الخطأ.‏

أخذت السيدة بيدي ودلتني على الكنيسة المطلوبة.‏

شكرت الأقدار من جديد أني ذهبت كعادتي مبكرة على موعدي تحسبًا لأي تأخير في المواصلات.‏

جريت مهرولة، ودخلت قاعة الكنيسة.‏

هذه المرة نظرت متفحصة. بحثت عن صورة الفقيدة. وجدتها هي هي، صورة الوالدة، المنشورة في دعوة ‏الصديق.‏

أخيرًا.‏

تنفست بعمق وجلست.‏

مع الجالسين والجالسات.‏

وبحثت من جديد عن أخي الصديق.‏

لم أجده.‏

سألت عنه في ختام القداس.‏

جاء الرد.‏

في سويسرا.‏

لم يتمكن من الحضور لأسباب قاهرة.‏

 

إذن.‏

هي قصة محرجة.‏

طريفة. لكنها محرجة.‏

وكلما تذكرتها أجدني أبتسم، رغم انحناء رأسي الخجل.‏

أردت أن أقوم بالواجب، فذهبت إلى جنازة فقيد، لا أعرفه.‏

وفي كل الأحوال، ورغم أني لم أكن أعرف الفقيدة أيضًا، شعرت أني أصبحت أكثر قربًا من أخي ‏الصديق.‏

والبقية في حياتك أخي الحبيب.‏