عن الصحة النفسية.. عندما فكرت في رمي نفسي أمام شاحنة

"لا أعتقد أن المسألة تتعلق بدرجاتك"!‏ في السابعة والعشرين من عمري. في الفصل الدراسي الثاني من ماجستير في العلوم السياسية المقارنة. ‏في منحة فولبرايت إلى الولايات المتحدة. وأعيش في واشنطن د.س. العاصمة في المنزل الدولي للطلاب ‏والطالبات.‏

وحدي.‏

والعبارة قالها لي المشرف علي في الجامعة.‏

في منتصف الفصل الدراسي. كنت أعاني من قلق شديد.‏

شديد.‏

كاد يمزق صدري.‏

وسببه غريب.‏

اعتدت أن أكون الأولى في دراستي. منذ الطفولة. في كل بلد ذهبت إليه مع أسرتي. طبيعة عمل والدي ‏كانت تتطلب السفر من بلد إلى آخر. وقصة حياته وحياة أمي، وطموحي، رسخوا أهمية التعليم في ‏وجداني. أعود إلى قصتهما في مقال قادم.‏

كأني ولدت وفي داخلي ترنيمة. "لا تقبلي بأنصاف الطرق". شقي طريقك بنفسك ولو اضطررتِ إلى ‏حفره بأظافر يديك.‏

ولذا كنت جادة في حياتي. في دراستي. وفي عملي.‏

ومرض والدتي العقلي وأنا في الثانية عشرة من عمري، وحياتنا الأسرية، أسهما في تركيزي.‏

كنت أداوي الألم بالتركيز.‏

وأصبحت المسألة طبعًا.‏

في كل أزمة أو حزن مررت بها وبه في حياتي، كنت أَوَاجِههُما بالتركيز على الدراسة، العمل، أو الكتابة.‏

كان التفوق في الدراسة نتيجة طبيعية لهذا التركيز والمثابرة.‏

عندما سافرت إلى الولايات المتحدة وجدت نفسي وحدي.‏

لأول مرة.‏

كنت في كل سفر إلى دولة جديدة، دومًا مع أبي وأمي، وتوأم الروح أخي. ‏

أخي سافر للدراسة بعيدًا وهو في الخامسة عشرة.‏

فغاب توأمي عني.‏

وأنا أصبحت لهما الابن والابنة. عماد وسند.‏

أرعى والدتي في مرضها مع أبي.‏

ونمر معًا بأزمات كثيرة، ليس وقت الحديث عنها الآن.‏

وعندما عدنا إلى اليمن، بعد حصولي على البكالوريوس في العلوم السياسية، بامتياز مع مرتبة الشرف، ‏عملت ثلاث سنوات في الجامعة. وبفضل رعاية الدكتور محمد زبارة، تقدمت بطلب منحة فولبرايت ‏أمريكية، وحصلت عليها.‏

وسافرت.‏

وحدي.‏

لأول مرة.‏

 

في الفصل الدراسي الأول كنت أعيش حالة يسمونها "يوفوريا". تعريفها الحرفي "إحساس مبالغ فيه من ‏السعادة والشعور بالذات".‏

لم أعش في حياتي مراهقة بالمعنى الصحيح. في الواقع لم يكن لدي حياة اجتماعية أيضًا. كنت دومًا جادة ‏في الدراسة والعمل. ووحيدة، مع أسرتي ومرض أمي.‏

وعندما وصلت إلى الولايات المتحدة، شعرت فجأة كأني أصبحت حرة.‏

فقررت، وكعادتي في التفكير عقلانية، أن آخذ مواد "سهلة" في الفصل الدراسي الأول، لإتقان اللغة ‏الإنجليزية، كي أتمكن من الاندماج في الحياة الاجتماعية الجديدة التي وجدتها في السكن الدولي للطلاب ‏والطالبات. شعرت أن روحي تتوق إلى البعد عن التركيز والمثابرة، فأتحت لها الفرصة في ذلك الفصل.‏

عشت فصلًا جميلًا. تعرفت فيه على أصدقاء وصديقات من دول عديدة.‏

خرجت فيه كثيرًا، وعشت فيه الحياة كما يجب لها أن تعاش من قبل إنسانة شابة في مقتبل الحياة. ومع ‏الوقت حصلت على ثقة الطلاب والطالبات في المنزل (نحو 80 شخصًا)، وتم انتخابي كرئيسة للمجلس ‏الطلابي.‏

ثم انتهى الفصل الأول بدرجات عالية، ودخلت في الفصل الدراسي الثاني.‏

هنا أخذت مواد في صلب الماجستير.‏

كانت هذه هي المرة الأولى التي أدرس بها مواد من هذا النوع باللغة الإنجليزية.‏

وقائمة القراءات المفروضة كانت تتطلب قراءة كتب ومئات الصفحات من المقالات الأكاديمية. أسبوعيًا!‏

حالة الـ"يوفوريا" تلاشت. ذلك الإحساس المبالغ فيه من السعادة والشعور بالذات، تبعثر، تناثر، ثم اختفى.‏

وبدأت أقلق. أقلق كثيرًا.‏

لم يكن قلقي مرتبطًا بمقدرتي على النجاح أو الفشل. كان خوفي مرتبطًا تحديدًا هل سأحصل على درجة ‏تفوق في موادي أم لا.‏

والمشرف علي يستمع إلي على مدى الفصل الدراسي. ويتابع تدهور حالتي النفسية. ذاك القلق. ذاك الألم ‏نهش في روحي ونفسي. وتبدى على حناياي.‏

ثم قال لي يومًا تلك العبارة: "لا أعتقد أن المسألة تتعلق بدرجاتك"!‏

وأنا نظرت إليه مصدومة. "ماذا تعني؟ بالطبع المسألة متعلقة بالدرجات".‏

هز رأسه، وأصر. "أعتقد أنكِ في حاجة إلى الحديث مع أخصائية نفسية للحديث عن جذور هذا القلق".‏

ثم بحث في ملف ما، وكتب لي اسم أخصائية نفسية، ورقم هاتفها. وأكد على أن أتصل بها.‏

لم أقتنع. أخذت القصاصة. دسستها في جيبي. وخرجت. وعدت إلى غرفتي في المنزل الطلابي. والغريب ‏أني لم أرمِ الورقة. وضعتها في درج مكتبي.‏

بقرف.‏

ثم زارني أخي.‏

زارني في وقت كنت أعاني فيه نفسيًا. لا أفهم ما أمر به من ألم نفسي.‏

كل من يراني يعتقد أني سعيدة. ابتسامتي لا تفارق وجهي، إلى أن أكون وحيدة.‏

وزيارة أخي لم تتح لي المجال كي أكون وحيدة. كان يريد أن يستغل الوقت كي يكون معي. عليكما أن ‏تفهما -عزيزتي القارئة عزيزي القارئ- طبيعة علاقتنا. هو أخي الأكبر الوحيد. وأنا أخته الصغيرة ‏الوحيدة. والحب عقدنا.‏

رغم ذلك، فوجوده المستمر أرهقني. كنت أبحث عن تلك اللحظة التي أنزع فيها تلك الابتسامة عن وجهي. ‏ولا أجدها.‏

فكدت أختنق. من ذاك الألم في روحي.‏

ثم خرجنا معًا أنا وهو، مرة، وعند عبور الشارع، نظرت إلى شاحنة قادمة، ووجدت نفسي أتساءل: "لو ‏رميت نفسي أمام هذه الشاحنة، سأرتاح من هذا الألم".‏

ذهلت من تلك الفكرة. ذهلت كما لو كنت قفشت نفسي وأنا أرتكب مصيبة.‏

وتذكرت عبارة مشرفي النبيل.‏

‏"لا أعتقد أن المسألة تتعلق بدرجاتك"!‏

عبرنا الشارع، وعدت إلى غرفتي. وقبل أن أخلع جاكيتي، فتحت درج المكتب، وأخذت الورقة، ورفعت ‏سماعة التلفون، واتصلت بها. الدكتورة ماريا.‏

لحسن الحظ ردت علي هي. قلت لها: "اسمي إلهام مانع، وأعتقد أني في حاجة إلى مساعدتك".‏

حددت لي موعدًا.‏

وكان الطوفان. كأن سدًا انهار في داخلي.‏

في الشهور الثلاثة التي مرت بعد ذلك، كنت أذهب إليها أسبوعيًا. أجلس أمامها، وأبكي وأنا أحكي.‏

معها تعرفت على طبيعة حالتي. يسمونها اضطراب ما بعد الصدمة. وهو رد فعل لاحق من معايشة حدث ‏أو أحداث مؤلمة، وليس من الضروري أن يكون الشخص نفسه قد تعرض لها، بل شاهدها تحدث لغيره.‏

كنت قبل وصولي إلى الولايات المتحدة، في حالة استنفار دائم للبقاء. استنفار دائم لحماية والدتي، لحماية ‏أسرتي. وكنت أشاهد ما يحدث من حولي، ليس بالضرورة في عائلتي، ولكن في النطاق الأوسع لها.‏

ليس من الصدفة أني أصبحت مدافعة عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان. فما رأيته في حياتي كان ينحر ‏الإنسان فيَّ.‏

وعند وصولي إلى الولايات المتحدة، وأصبحت وحيدة، زالت حالة الاستنفار تلك.‏

وبدأت روحي تنتبه لنفسها، لجراحها، تلعقها وهي تئن.‏

‏***

 

مازلت إلى يومنا هذه ممتنة لمشرفي النبيل، وللدكتورة ماريا.‏

عبارته تلك، وعلاجها النفسي القائم على مواجهة ما حدث في الماضي، مكناني من الخروج من الماضي ‏إلى الحاضر.‏

ولأن الصمت كان جريمتي في الماضي، أقسمت ألا أصمت بعد ذلك.‏

لم يكن الطريق سهلًا. ومازالت هناك أوقات تمر علي، أشعر فيها بتلك الابتسامة تغيب عن وجهي وأنا ‏وحدي.‏

لكن ذاك الألم، الذي قطع روحي إلى أشلاء، ذاك الصراخ الصامت في أنينه، غاب عني.‏

ولذا تجدانني ممتنة.‏

ليس هناك ما يخجل من الحديث عن الصحة النفسية.‏

المخجل هو ألا نبحث عن العلاج عندما يتوفر.‏

والمشرف على فكرة كان على حق.‏

المسألة لا علاقة لها بالدرجات الدراسية.‏

وفي كل الأحوال، وبعد جهد وسهر، أكملت مواد ذلك الفصل الدراسي، كدأبي، بمرتبة الشرف.‏

المسألة كانت تتعلق بحالة نفسية تحتاج إلى علاج.‏

واليوم، بعد ثلاثين عامًا، أنظر إليكما وأسألكما.‏

مع كل الحروب والأزمات التي تمر بها بعض أوطاننا في المشرق، كم منا يحتاج إلى هذا الدعم؟