بافقيه وهيئة الآثار.. "كمن يحرث في بحر"

بافقيه وهيئة الآثار - كمن يحرث في بحر
بافقيه وهيئة الآثار - كمن يحرث في بحر

بين العام 1990 و1994 تولى الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه رئاسة الهيئة العامة للآثار والمخطوطات والمتاحف "الوحدوية" قادماً من رئاسة الرابطة اليمنية للدراسات الأثرية والنقشية "الجنوبية"، وهي مؤسسة غير حكومية أسسها بافقيه عقب عودته من باريس عام 1988 وأصبح اسمها بعد الوحدة وحتى نهب مقرها في عدن أثناء حرب 1994 "مؤسسة ريدان". في تولي هذا المنصب ما يُطلق عليه عادة بـ"الرجل المناسب في المكان المناسبـ".

ولكن الأمر كما يبدو لم يمض وفق الافتراض المريح الذي يؤدي له المنطق البسيط لهذه العبارة، فإذا غضضنا الطرف عن أحقية وأهلية بافقيه الكاملة لهذا الموقع كونه من أهم علماء ومؤرخي اليمن وباحثا رصينا ورجل دولة، فهو تولى موقعه أيضاً ضمن اعتبارات التقاسم الوظيفي بين الشطرين السابقين لجهاز الدولة الجديد عقب عام 1990. وهكذا كان عليه احتمال صيغة سياسية لا تعنيه تماماً وهو المهتم بأن تكون الهيئة جهة علمية وبحثية وليست جهة إدارية يُنهكها الطابع الوظيفي والخدمي المعتاد لأجهزة الدولة.

لقد قبل بافقيه أن يتولى هذا المنصب، وهو ذو الحساسية العالية عادةً في العلاقة مع أي صيغة حكومية رسمية، بافتراض أنه سيتم تنفيذ مضامين وثيقة محاضر دمج المؤسسات العاملة في مجال الآثار والمتاحف والمخطوطات الموقع عليها في عدن بتاريخ 7 مايو 1990، والتي اتفق فيها على تشكيل مجلس أعلى للآثار يشرف وينسق عمل "مؤسستي" الآثار: المتحف الوطني، ومؤسسة ريدان للدراسات، والتي نصت على أن يكون للمخطوطات والوثائق وكذلك المدن التاريخية هيئات مستقلة بها، يتم تمثيلها في هذا المجلس. كل ذلك بالطبع لم يتم، واضطر بافقيه للتعايش مع الهيئة وإداراتها العامة بعد الاستغناء عن لائحة المجلس الأعلى للآثار ومؤسساته.

كان "كمن يحرث في بحر" وفق قوله الذي ينقله صديقه د. احمد باطايع في ورقته "بافقيه… السيرة والمسيرة" التي تضمنها الكتيب الصادر عن حلقة النقاش التي نظمتها جامعة عدن عن بافقيه. تصور بافقيه للهيئة كما يبدو يتعلق بضرورة تطويرها والعاملين في إطارها، والخروج من المركزية التي تهيمن على الأجهزة الحكومية بنقل العمل الآثاري وكادره من العاصمتين، صنعاء وعدن، إلى المحافظات لتنفيذ خطط الهيئة في مجال الآثار والمتاحف.

ذلك كله كان جهداً ضائعاً. وعلى المستوى البسيط كان على بافقيه أن يدخل في الكثير من "النزاعات" و"الجدلـ" لضمان انضمام كوادر كفؤة للهيئة، باعتبار ذلك أقل ما يمكن. في أواخر العام 1992 وبداية العام 1993 تُفصح مراسلات رسمية تبادلها بافقيه مع وزير الثقافة والسياحة حينها، حسن اللوزي، عن تصور الرجل الواضح لحاجة الهيئة لكفاءات، ودفاعه عن حقوق الموظفين و"أقدميتهم" في مواجهة "التقاسم" و"المحسوبيات" و"الترشيحات" غير المنطقية.

في المذكرة التي تحمل الرقم 13 بتاريخ 12 يناير 1993، يجادل بافقيه عن ترشيحات تقدم بها لشغر ثلاث وظائف شاغرة في الهيئة، مؤكداً على معيارين أثيرين لديه: الكفاءة والخبرة. ذلك ما يؤكده باستمرار في مواقع مختلفة أثناء رده على رسالة الوزير اللوزي، مستغرباً ببساطة غياب هرمية إدارية والحد الأدنى من "النظام" الذي يستدعي عدم وجود رسائل وترشيحات للأفراد واقتراح إدارات جديدة من قبل "النائب"، موجهة إلى الوزير رأساً من دون مرورها به ونقاش تفاصيلها معه، باعتبار ذلك المنطقي، مؤكداً: "ليس هذا باحتجاج. هذه مجرد حقيقة.

وهذه في النهاية مسألة يحكمها النظام. ونحن خاضعون للنظام". استغراب بافقيه، ومحاجته المنطقية عن حقوق الموظفين والاحتياج لكفاءات يستتبعه تأكيد في ضمن الرسالة على ضرورة الاجتماع لنقاش الأمر، لأنه "لا يمكن أن نناقش مصائر العاملين بهذه الطريقة، فهناك معايير ستساعدنا عند المناقشة على الوصول إلى ترشيحات منطقية". إذاً، الأمر يتعلق بتفصيل واضح لا لبس فيه بالنسبة له: "القضية بالغة الأهمية ومتعلق بتراث بالغ الضخامة والعراقة".

يعكس بافقيه في هذا الرسالة والأخرى رقم 21 والمؤرخة في 14/1/1993 منطقاً بسيطاً: المفاضلة تقررها المزايا والخبرات بين المرشحين لشغر وظائف في الهيئة، وليس الأمر متعلق بكونهم يحملون دكتوراه فقط وفق ما أشارت رسالة الوزير، ذات اللغة "الحاسمة"، رقم 83 المؤرخة ب12/1/1993. حيث أن ميزتهم الإضافية، علاوة على شهاداتهم وعملهم في أجهزة الآثار، قياساً بمن تم قبول ترشيحهم، أنهم "عملوا في الميدان كما يعمل جميع الآثارين أصحاب المؤهلات في مجال الآثار".

بافقيه في هذا الجدل مع الوزير و"النائب" يعكس تصوراً وفعالية شخصية منخرطة بشكل جاد في جعل الهيئة مؤسسة علمية وبحثية وإدارية ناجحة وفعالة تقوم بمهام حقيقية، إنه لا ينافح عن أحد لمحسوبية شخصية، فقط يدافع عن كفاءات يحتاجها، ويبحث عن عمل أفضل وجعل الهيئة محلا ملائما لرجال أكفاء سيتمكنون من العمل على تاريخ وتراث كبير مازال مهملاً ويحتاج للكثير من الجهد، وهو شأن لم تحتمله ذهنية التقاسم التي سادت أجهزة الدولة عقب الوحدة، والتي لم تنجُ منها الهيئة بالضرورة، وكل ذلك كما يبدو ساهم بكفاءة في تبديد جهوده، وأتى ضداً على تصوره لهيئة فعالة في مجال الآثار لديها مهام ضخمة يعرفها عالم كبير مثله عمل مطولاً في الحقل الآثاري و"النقشي" ولديه ما يضيفه بالضرورة.

> م. م

*نشر في العدد (187) الموافق 11مارس 2009