المخفي قسرًا والمقتول غدرًا

علي عبدالمجيد من أرشيف النداء
علي عبدالمجيد من أرشيف النداء

من رحم الألم والمعاناة يُولد الأبطال، وأية معاناة تلك التي تفرضها عليهم الحياة في مرحلة الطفولة، دارت قصة الشاب فتحي علي عبدالمجيد في قرية المشاوز أعبوس مديرية حيفان محافظة تعز، فتحي النجل الأكبر لعلي عبدالمجيد ومنى عبده حسن، المولود سنة 1971، وكما قيل عنه من رفقاء طفولته فهو الشاب المُحب للقرية بما فيها، لأبنيتها الطينية وأسقفها، لرائحتها وهوائها العليل، لمواسم الزراعة فيها، ولكل ما يحمل له ذكرى والده علي عبدالمجيد في القرية الصغيرة ذاتها.

في الصف السادس سنة 1983 تحديدًا، استيقظ فتحي على خبر إخفاء والده علي عبدالمجيد قسريًا من قبل جهاز مخابرات الأمن الوطني (السياسي حاليًا)، الفتى الذي كبر على حُب الأرض، الوطن، والشعور بالانتماء، كبر أيضًا على ذكرى والده القريب البعيد، وهو يؤخذ بين ليلة وضحاها قسرًا.

ما تشعر به الآن ليس سوى ذرة مما حُط في صدور أُسر المخفيين قسريًا، وأحد نماذجها فتحي وأسرته، لك أن تتخيل معنى أن يُجرد فتحي من أربعة جدران كان عمادها والده وسقفٌ قد ملئ بالدفء (دفء الأب وما يعطي)، هو لم يتعدَّ الثانية عشرة من عمره، ولا يجد أدنى جواب لأسئلته: لِم أبي؟ أين أبي؟ كيف ولماذا؟ لا يجد شيئًا سوى مواساة أُسرية مفادها "لا تقلق بيرجع أبوك يا فتحي، نحنا واقفين معاك"، يسترد نفسه قليلًا لعل الجميع كأبيه عند حُسن الكلام.

تمر السنة تلو الأخرى، وهو يتحرق لعودة ذاك الغائب دون فعل يُذكر، ويجد نفسه أخيرًا وحيدًا أمام مفترق طرق تحمل عنوان إما أنت أو أنت، خصوصًا أن ذلك أمر واجب عليه لكي يتمكن من شق طريقه وادخار المال الكافي لإعالة أسرته التي تركها والده على عاتقه، منذ ذلك الحين (عمر الثانية عشرة) قرر فتحي أن يحمل على كتفيه أسرته المكونة من (أم وأخ وأختين)، وقضية بالخط الأحمر العريض عنوانها "أين أبي؟"، مع العديد من علامات الاستفهام التابعة.

لم يغب عن مسمعي صوته وهو يسرد لي كيف أنه لم يستسلم قط، ولم يمل، إنما مضى بحياته قُدمًا، وغادر القرية إلى مدن عدّة (صنعاء- تعز- عدن)، انطلق في طريقه من عدن، واستقر في صنعاء، ليكون نفسه شيئًا فشيئًا مع مرور الوقت، بعد مدّة، وتحديدًا سنة 1993، يعود فتحي إلى القرية، بعد أن مكث في المدينة أولًا للدراسة، ثم للعمل، يعود لأن هذا ما اعتاد عليه، الألفة التي جمعته بعمره المنقضي في القرية، تعيده إليها للزواج منها، تزوج في ذات السنة من نسيم أحمد علي، بعد أن أكمل تعليمه بتقدير ممتاز، ونجح في أن ينخرط في وظيفة تكفيه ليحمل مسؤولية أسرة، من ثم بدأ بحمل أطفاله (تشرين، عُلا، ثم علي)، وبالمناسبة أطلق على ابنه اسم علي ليكون له النصيب الأكبر من جدّه، ويظل الاسم والقضية ملازمة له تمامًا.

فتحي الذي رعى الأغنام، وعاش يتميًا، وجد في أمه أيضًا ما كان يفقده في والده الذي أخفوه عنه في صغره، وإن ما كان من سبب للكفاح الذي مر به، فذلك لأجل أن يسعد أمه وإخوته بالقدر الكافي.

لم يهدأ له بال طيلة حياته، و هو يفكر في فك أية شفرة من شأنها أن تدله على معلومة بسيطة يستطيع بها إنعاش آمال أسرته، عاش بطل الأسطر هذه على بصيص أمل إيجاد والده المناضل اليساري علي عبدالمحيد الذي اعتُقل سنة 1983، من قبل جهاز مخابرات الأمن الوطني (السياسي حاليًا)، ثم اختفى قسريًا في سجن دار البشائر (البونية)، بتهمة الانتماء إلى الحزب الديمقراطي الثوري آنذاك.

لم يعرف اليأس طريقًا إلى قلبه من غياب والده، إذ تمكن سنة 1990 من إصدار مذكرة من النائب العام، موجهة إلى رئيس جهاز الأمن الوطني، بخصوص شكوى أولاد المدعو علي عبدالمجيد، والتي مفادها أنه قد اختفى عام 1983، ولم يعرف عن مصيره شيء، وعليه فيأمل الاطلاع والإفادة إذا كان لديهم أية معلومات، في مقابل ذلك لم يتلقَّ أي رد سوى مذكرة رُفض التوقيع عليها لشراء سكوته (كما ذكر للنداء).

قامت الوحدة، وتفاءل فتحي علي عبدالمجيد الاسم الذي أقض مضاجع رجال الدولة العميقة من أخمص رجليها وحتى رأسها، لم يتقاعس عن طرق أبواب المسؤولين دون التماس أي رد ولو (مكان قبره).

القضية التي بدأها فتحي بوالده نقلها من قضية لا يلتفت إليها أحد (بل يخاف الجميع من طرق أبوابها)، إلى قضية تداولها العالم بأسره، وأرست قاعدة يضمنها دستور الدولة الجديدة المنبثق من مخرجات الحوار الوطني (العدالة الانتقالية)، إذ استوجبت الأمر على النائب العام آنذاك أن يحرك هو تلك القضية، ليس كقضية فرد أو جماعة، وإنما "قضية وطن".

انطلق حينها فتحي، مع كثير من الرفاق والزملاء من كل أبناء الوطن (شماله وجنوبه)، من يحملون قضايا المخفيين قسريًا في صنعاء، أمثال قضية المناضل "سلطان القرشي، عبدالوهاب حزام، علي محمد الإرياني، وجلال عمر"، حاملين في أكتافهم صورهم وشعارات تطالب أجهزة الدولة بالرد على تساؤلاتهم، كونها المسؤول عن أمن المواطن، ليكون بذلك أحد رموز هذه القضية، ويرسل رسالة انطبعت في أذهان الجميع، مفادها "قضية المخفيين قسريًا قضية وطن لم تمت".

اليوم، أنا عُلا؛ الفتاة التي تكتب عن والدها الشهيد المغدور به فتحي (رحمة الله عليه)، حفيدة المخفي قسريًا علي عبدالمجيد، ماضية على النهج ذاته، بعد أن كانت القضية علي عبدالمجيد واختفاءه القسري، تحولت أيضًا إلى غدر بوالدي في العلن أمام مرأى الجميع، ولعل هذا ما جعلهم يتكالبون عليه ليتخلصوا من قضية ستنال منهم جميعًا.

يتبع...