لنبقه قصيدة جامعة

عبدالله البردوني
عبدالله البردوني - بعدسة عبدالرحمن الغابري

يجمعنا البردوني إذ تفرقنا السياسة والحروب والذاكرة والعصبيات وبواعث الانقسام والتشرذم.

يلملمنا، يعيدنا إلينا، ويعود بنا إلى مساقط الحياة ومواطن الحب والجمال والندى والاخضرار، نجد إنسانيتنا في شعره، ونعانق فضاءات إنسانية وكونية رحبة لا تحد، لا يقبل التأطيرات الضيقة، ولا الاستخدامات السيئة.

لنبقه ملاذًا للجميع. بلادًا تجيء من الأغنيات. لندعه يؤنسن وجودنا، ويمنحنا المعنى في رحلة البحث عن الكينونة والكرامة.

نحتاجه قصيدة جامعة نقرأ فيها أرواحنا المكدودة وملامحنا المجهدة، توقنا المكبوت، غرباتنا المتعاظمة، أوجاعنا الخرساء، كبرياءنا الطعينة.

نريده أن يظل مبصرنا الكبير، يقودنا في رحلة عمانا المديد منذ ابتدأنا السرى، ليظل التعبير الأكمل عنا إذ تخوننا التعابير والخطابات.

هذا الأخضر المغمور الحاضر ابدا شعرا وابداعا وحبا وخصبا وعوالم من حنون الكلام.

لكي يستهلَّ الصبحُ، من آخرِ السُّرَى
يحنُّ إلى الأسنى، ويعمى لكي يرَى

لكي لا يفيقَ الميتونَ، ليظْفَروا
بموتٍ جديدٍ.. يُبْدعُ الصحوَ أغبرا

لكي يُنبتَ الأشجارَ… يمتدُّ تَربةً
لكي يصبحَ الأشجارَ والخصبَ والثرى

لكي يستهلَّ المستحيلُ كتابهُ
يمدَّ لهُ عينيهِ، حبرًا ودفترا

لأنَّ بهِ كالنهرِ أشواقَ باذلٍ
يعاني عناءَ النهرِ، يجري كما جرى

يروِّي سواهُ، وهو أظمى من اللظى
ويهوي، لكي ترقَى السفوحُ إلى الذُّرى

لكي لا يعودَ القبرُ ميلادَ ميتٍ
لكي لا يوالي قيصرٌ ، عهدَ قيصرا

لأنَّ دمَ (الخضراءِ) فيهِ معلَّبٌ
يذوبُ ندًى، يمشي حقولًا إلى القرى

لأنَّ خطاهُ، تنبتَ الوردَ في الصفا
وفي الرملِ أضحى، يعشقُ الحسن أحمرا

هنا أو هنا ينمُو، لأنّ جذورهُ
بكلِّ جذورِ الأرضِ، ورديةَ العُرَى

على أعينِ (الغيلانِ) يركضُ حافيًا
ويجترُّ من أحجارِ (عيبانَ) مئزرا

يقولونَ، من شكلِ الفوراسِ شكلُهُ
نعمْ.. ليسَ تكسيًّا، لمن قاد واكترى

لهُ (عبلةٌ) في كل شبرٍ ونسمةٍ
وما قال إنّي (عنترٌ) أو تعنترا

ولا كانَ دلَّالَ المنايا حصانهُ
ولا باعَ في سوقِ الدعاوى ولا اشترى

يحبُّ لذاتِ البذلِ، بالقلبِ كلّهِ
يحبُّ ولا يدري، ولا غيرهُ درى

لأنّ بهِ سرَّ الحقولِ تحسُّهُ
يشعُّ ويندى، ولا تعي كيفَ أزهرا

حكاياتهُ، لونٌ وضوءٌ، عرفتهُ؟
كشعبٍ كبيرٍ، وهو فردٌ من الورى

بسيطٌ (كقاعِ الحقلِ) عالٍ (كيافعٍ)
عميقٌ ، كما تكسو العناقيدُ (مسورا)

ومن أينَ؟ من كلِّ البقاع، لانّهُ
يجودُ ولا يدرونَ، من أينَ أمطرا

يغيمُ ولا يدرونَ، من أينَ ينجلي
يغيبُ ولا يدرون، من أين أسفرا

وقد يعتريه الموتُ، مليونَ مرةٍ
ويأتي وليدًا، ناسيًا كلَّ ما اعترى

تدلُّ عليهِ الرِّيحُ، همسًا إلى الضُّحى
وتروي عطاياه العشايا، تفكّرا

هناكَ شدا كالفجرِ، أورقَ ها هنا
هنا رفَّ كالمرعى، هنالك أثمرا

لأنَّ خطاهُ برعمتْ شهوةَ الحصى
لأنّ هواهُ، في دمِ البذرِ أقمرا
ترى ما اسمهُ؟ لا يعرفُ الناسُ ما اسمهُ
وسوفَ تسمِّيهِ العصافيرُ، أخضرا

عبد الله البردوني.
يناير 1976م
ديوان ( وجوه دخانيِة في مرايا الليل)