عبارات في مداخل مساجد
عبارات في مداخل مساجد (أروى عثمان)

سوسيولوجيا التعبيرات البصرية في فضاءات المدينة: "الشخاطيط" الدامية (2)

عن جرنيكا المدن

عن جرنيكا المدن

"سقا الله" على شخاطيط زمان، حين كنا نمر بطريق المدرسة، من شوارع وأزقة، تحمل رائحة " ياللي ظلالش برود"، مثل كلمات:" أحبك يا فطومة، يا صبوحة، يا نجوتة، يا صفية" أو مطلع النشيد الوطني: "في ظل راية ثورتي"، ثم "رددي أيتها الدنيا نشيدي"، وعند الشتم: "العن أبو عارك يا صبوحة، ويا مريم، نعن أبو شكلك يا أحمد.."، "اللي يحب عمره ما يكره"، "شلوك الجن"، "الحب جنة ونار والعاشق حمار ابن حمار"!

بعد الربيع العربي، وقعت عيني على رسمة الجرنيكا، بسور مدرسة الشعب بتعز، وقفت متأملة والتقطت لها صورة بكاميرتي المتواضعة آنذاك.

 

الجرنيكا على سور مدرسة الشعب بتعز
الجرنيكا على سور مدرسة الشعب بتعز (صورة أرشيفية متداولة)

كنت أفتكر أنها رسمة مثل تلك التي تُرسم على الجدران، لم أكن أعتقد أن من رسمها كان يعي قبلنا ما يكتنف البلاد والعباد من جرنيكات، تختزن كمًا هائلًا من القسوة والخراب، ومجاعات الاستدامة. كان ذلك الفنان يدرك أنها عنوان مدننا للحاضر والمستقبل، أما الماضي فلا يخرج عنهما الحبل الدامي الممتد. لقد استقاها فنان سور مدرسة الشعب من جرنيكا بيكاسو التي دُمرت في الحرب العالمية الثانية، لتستحضر في اليمن مع الألفية الثالثة.

الحرب لم تبدأ مع أحداث الربيع العربي (الثورة)، بل قبل ذلك، منذ أن بدأت الجدران تكتسي بعبارات العنصرية والتعصب، شخاطيط الدم المؤجل الذي تفجر بعنف في 1968، 1986، 1994، 2011، و2014... الخ.

سأعرج في هذه الحلقة، على مساجدنا، وكيف توشت بالجرنيكا الموحشة.

ماذا ستفعل إزاء شخابيط "الفزعة الإلهية" على الجدران القريبة من بيتك، الشارع والمسجد والمدرسة، والحوش والسلالم، والنوافذ، وأحيانًا تكون جرنيكات صغيرة مقابل غرفة نومك.

هل أنسى جامع "شعرة" بمدينة تعز -حوض الأشراف، الذي لازمني فترة الدراسة الابتدائية والثانوية، لأراه، في الألفية الثالثة، تحت اسم "مسجد عائشة"، على سبيل المثال، وبجانبه شعارات جماعة دينية: "مر الإخوان المسلمون - الإصلاح - السلفي من هنا)، ولم يعد سوره الأبيض حانيًا وأليفًا بطعم البطاط المفور والبسباس واللانجوس، وجعالات دكانة الهمداني.

 

جامع وصريح الصوفي عبد الهادي السودي بتعز 2009
جامع وضريح الصوفي عبد الهادي السودي بتعز 2009 (أروى عثمان)

وبالمثل، تربعت جهنمية التعصب والكراهية، على نجمة داود المنحوتة فوق بوابة جامع وضريح عبدالهادي السودي في الأشرفية بتعز، وكشطتها (التقطت صورة 2009)، وكان ذلك مصير الكثير من نجمات داود التي طالما زينت أبواب البيوت اليمنية في صنعاء، وتعز وصعدة.. تلك الكشطة، هي بداية الحرب والنهب والتفجير الذي طال جامع السودي في 2016. نعم، من هناك مرت القاعدة وداعش مع حزبهم الإسلاموي، وطرشت الجرنيكا على السودي، وغيره من الأضرحة في عدن ولحج، وإب... الخ.

كيف "سخيتم" على السودي وهو يحني علينا بقصائده السمحاء؟:

غنى المحبوب فارقصوا عن وجدِ*** فالرقص على غناه كل السعدِ

من لم يطرب إذا حدا من يهوى*** فاحسبه كمن هوى بقعر اللحدِ

مسجد آخر، بصنعاء، ما بين القاع والزراعة، تحول في ظرف ليلة من 2012، إلى رسوم، وآيات قرآنية بخطوط رديئة، وألوان عشوائية، ومن هنا "مرت جرنيكا أنصار الله"، فضاع لون الحجارة، والشبابيك، والروحانية، حتى لو "زينوها بآيات قرآنية"، لكنها تجعل الوحشة تتسلل إلى روحك وتسممه.

 

شعارات الحوثيين على جامع الهادي في صعدة 2014
شعارات الحوثيين على جامع الهادي في صعدة 2014 (أروى عثمان)

جامع الهادي بصعدة، زرته في 1998، نظيف وهادئ، ودخلته، وعند الزيارة الثانية في فبراير 2014، رأيته قد "تجرنك" بشعارات "أنصار الله"، بألوان الكهف الخضراء والحمراء، وشعارات الصرخة، بل حتى حظروا علينا المشي بجانبه، بأوامر من مليشيات العكفة الإلهية المدججة بالأسلحة والقات، استرقت بضع صور، كانت صورة أحمد شرف الدين شريان وحي أمام وحشة الكهف الدموي.

 

عبارات في مداخل مساجد
عبارات في مداخل مساجد (أروى عثمان)

وكلما مررت بجانب المساجد وقباب الأولياء، والمقابر من صنعاء، إلى تعز، إلى صعدة، عدن... الخ، تستقبلك العوادم الحارقة: "أدخل المسجد حيًا، قبل أن تدخله ميتًا"، أو "صلّ قبل أن يصلى عليك"، مكتوبة على المساجد (2014)، أو "قال عليه الصلاة والسلام: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (2014)، "لبيك يا رسول الله"، "نصرة الصحابة وأمهات المؤمنين مسؤولية جميع المسلمين"، "الحوار التفاف آخر على الثورة" (2014)، "كلنا الشهيد..."، "ارحل"، "يسقط النظام"، "طفح الكيل"... الخ، أما عناوين مطببي الرقية الشرعية، فهي مصهورة على المساجد والشوارع والمدارس ورياض الأطفال والمطاعم، والخرابات، والأسواق وصالات الأفراح... الخ.

هذا نموذج مصغر على هرولة الجدران نحو الجحيم الهوياتي في اليمن.

 

**

شعارات مذهبية وسياسية على الجدران
شعارات مذهبية وسياسية على الجدران (أروى عثمان)

كل أحداث العنف، ما هي إلا ترجمة لجدراننا الداخلية، وقد شاهدنا منذ الاحتلال الحوثي، كيف أصبحت المساجد جرنيكات مشهدية للقتل الرمزي، وخصوصًا عند صلاة الجمعة ورمضان، رأينا شغب المصلين وهم يخرجون مستنكرين خطبة إمام الجامع، بل رأينا عراكًا وإطلاق النار. نرجع ونقول سلام الله على خيل المؤتمر، وشعاراته التي كانت تدوي في المدن والأرياف وطرقات السفر.

كانت لافتة تلك الوفرة من بخاخات الكتابات الملونة، في يد الكل، بمن في ذلك العابرون،: قلة منهم يصمتون، بعضهم يبتسمون بفخر مؤيدين الشعار، بعضهم يزيد ويضيف من الشعر بيتًا، يطرش ويشخط كلمة عنصرية في هذا الجدار، أو شخبطة وإمحاء أو شتائم للآخر المخالف، فترى الخربشات بزيادة، أو بحذف، أو علامة×، وبالألوان، أو كحت على الكتابة، هكذا، هي صورتنا وثقافتنا من جدراننا.

 

 عبارات على المساجد
عبارات على المساجد صنعاء 2014 (بعدسة أروى عثمان)

حتى الجدران التاريخية، ذات اللبن والحجارة القديمة، تكربنت وتجرنكت بشعارات مع وضد، الناضحة بالكراهية المحمومة، من اللاهوت والتصفيات الرمزية، والتي تنتهي بتصفيات جسدية على نحو ما نراه اليوم.

إنه فلكلور العنصرية، ومقلى الهويات المتقاتلة، إذ تستبيح جدراننا بعنف اللغة والصورة، مثلما تستخدم الزوامل وعنف السلاح، هويات استكلابية تنهش أرواحنا، وتلاحقنا إلى مخداتنا وأحلامنا، بل أنفاسنا.

فكل الهويات تتطاحن في يمن المجاعة، معها "جنودًا من عسل"، و"سيوف الحق والإسلام"، و"سيف الله المسلول"، و"العترة"، و"أشرف خلق الله"، "يا أبناء حمير"، "موطن الإيمان"، "الجهاد من المهد إلى اللحد"، و"الزاد والزناد"، تحولت شوارعنا وجدران بيوتنا ومدارسنا، ومدننا (جرنيكات) مع الحرب وديمومتها.

وليس بآخر:

لسان حال ما آلت إليه جدراننا، جدران الكراهية على جدران الشوارع، لا تخرج عن فلسفة ذلك العجوز الأفريقي البائس الذي قابله أحد المستكشفين، حين سأله عن الخير والشر، فرد عليه: "إذا هاجمت قبيلتي القبيلة المعادية، وسبت نساءها، وأنعامها، فهذا عمل خير... أما إذا هاجمت القبيلة المعادية قبيلتنا، وسبت نساءنا وأنعامنا، فهذا عمل شرير".

هل تخرج جرنيكات المليشيات القاتلة لنا ولجدراننا، عن نطاق حكمة ذلك العجوز الأفريقي المتماهية مع مأثورنا القبائلي العربي: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، و"أنا وابن عمي على الغريب"، "أسد السنة"، و"جحش الشيعة"، و"الموت للشيعة"، ونقيضها "قاهر السنة"، و"جواس بطل"، و"أبو علي الحاكم بطل"، أما شعار الحوثي "الشعار أزعج أعداء الأمة لأنه عمل ديني في سبيل الله"، فهو "مُملطط" في كل شبر وسماء.

كل المليشيات حتى لو كانت تتلطى بأحزاب، تستثمر في رأس المال الرمزي، جميعها تحلل وتحرم، متى اقتضت الحاجة لاعتماد زر "الهوية والعرق"، وافتراس الجدران بالشعارات الطالعة من أقبية الثقافة الثأرية للقبيلة ومؤسسات المساجد وخطبها، والمدارس بمناهجها التعليمية العنيفة والمحرضة على التعصب والطائفية والموت/ الاستشهاد.

وأنا في حقبتي الخمسينية، أحن وأدمع، على جدران بلادي، أيام المُليم، والنعنع أبو عودي، وبسكوت الميزان، والسكريم، جدران: أنا أحبك يا فتحية، ورسم القلوب والسهام، والورود الحمراء، والعيون الواسعة، وتحت الهدب دمعة، اشتقت لجدران "علي يحب منى"، و"زهرة تحب الرَّبْح سلطان".

يااااالله..

أما لليل جدران اليمن أن ينجلي؟!

الحلقة الأولى: سوسيولوجيا التعبيرات البصرية في فضاءات المدينة: “الشخاطيط” الدامية (1)