اليمن السعيد … بالسقاف!

أبو بكر السقاف الحقوقي يحضر عندى قبل أستاذ الفلسفة. وأنا أفكر بالكتابة عنه قبل قليل، راحت عدة مواقف تتزاحم قبل أن أوردها هنا كيفما اتفق!

في ربيع 2004 تم اعتقال الزميل سعيد ثابت، الصحفي المعروف، من قبل جهاز الأمن القومي (المخابرات)، عبر الوسائل المعروفة حينذاك. كان سعيد انتخب للتو عضوًا لمجلس النقابة هو وآخرون من المعارضة والمستقلين، وكنت أحد هؤلاء.

لفت انتباهي مشاركة السقاف بكل الفعاليات المطالبة بالإفراج عن سعيد ثابت، إلى أن أطلق سراحه. كان المفكر الماركسي يشارك بدأب وحيوية شاب في الـ20، في الفعاليات المطالبة بالإفراج عن صحفي إسلامي اعتقله جهاز أمن لنظام حكم تسلطي (في دولة سلطانية على حد تعبيره).

في 2004 و2005 استرعى اهتمامي حرص أستاذ الفلسفة على المشاركة في كل الفعاليات التي تدعو إليها نقابة الصحفيين أو نقابة المحامين أو أية منظمات حقوقية ومبادرات إنسانية، من أجل ضحايا الأجهزة الأمنية، بصرف النظر عن مناطقهم وعقائدهم وأحزابهم ومذاهبهم. ومن يعود إلى أرشيف الصحافة اليمنية في العشرية الأولى من القرن الـ21، سيدهش لدأب الرجل على الدفاع عن المظلومين في اليمن والعالم العربي.

المفكر أبوبكر السقاف مع الأستاذ عبدالله البردوني
المفكر أبوبكر السقاف مع الأستاذ عبدالله البردوني (بعدسة عبدالبرحمن الغابري مطلع ثمانينات القرن الماضي)

تعود معرفتي بالسقاف إلى قبل ذلك بعشر سنوات على الأقل. في مطلع التسعينيات أهداني صديقي عبداللطيف عبدالله سعيد سلام (وأنا أكتب اسمه كاملًا لأن والده أحد شهداء الحركة الوطنية في 1982) نسخة مصورة من كتاب كان يوزع سرًا، عنوانه "اليمن بين السلطنة والقبيلة"، باسم محمد عبدالسلام! قال لي عبداللطيف هذا اسم مستعار (وقد عرفت لاحقًا أن كاتبه هو أبو بكر السقاف)، والكتاب الذي يوزع سرًا، واسم كاتبه مجهول، مهم من زاوية تشخيص نظام الحكم في شمال اليمن، ولأنه يعرض جرائم نظام صالح، وبينها جريمة قتل والد عبداللطيف.

في 1996 اشتهرت جملة نسبت للشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، قيل إنه تفوه بها إثر اعتداء بدني مشين على السقاف، بسبب مقالاته، كانت الجملة هي "من كتب لُبج"؛ أي من يكتب ناقدًا السلطة يُضرب ضربًا مبرحًا.

في يوم من أيام 2007، اتصل بي الأستاذ عبدالعزيز الزارقة، طالبًا مني زيارته للمقيل في بيته. وقال إن هذا طلب من الدكتور أبو بكر! كان المعنى معلومًا، فقد كان الأستاذ عبدالعزيز بسيارته الفولكس فاجن، يتولى في الغالب إيصال مقالات السقاف لمقر صحيفة "النداء". وقد ذهبت فعلًا لقضاء المقيل في منزل الزارقة، متوقعًا ملفًا ما يطلب من "النداء" نشره. والحق أن السقاف كاشفني مهمومًا بقضية بسمة الزغير ابنة محمد سالم الزغير، رجل الأعمال الذي لقي مصرعه قبل 3 سنوات، في جريمة غامضة. كان السقاف على ثقة أن القتلة وهم محميون من سلطة عليا، طلقاء، فيما بسمة في السجن المركزي منذ ليلة الجريمة. زودني السقاف والزارقة بملف القضية، وقمت شخصيًا بمتابعة القضية، حتى أفرج عن بسمة بعد عام تقريبًا.

في ذاك المقيل انتهينا من النقاش حول ما الذي يمكن أن تفعله "النداء" لمناصرة بسمة الزغير، قبل أن يطرح موضوعًا آخر يشغله! أخرج السقاف من ملف معه حزمة أوراق، ومد بها إليَّ، قائلًا: "ما حكاية المدققين لغويًا في الصحف اليمنية؟"، ثم أضاف بسؤال آخر: "أليس لهم قرابة بخفة الدم؟".

كنت داهشًا أنا المتباهي بزملائي الذين يتناوبون على التدقيق لغويًا على مواد الصحيفة الأسبوعية (أمين ووليد وفائز). بعد هجومه المتلاحق قال إن في مقاله الأخير كتب على سبيل التهكم: "اليمن السعيد بحكامه"، فإذا بالمدقق يجتهد في العبارة معدلًا إياها إلى تعبير آخر!

الحاصل أن الزميل فائز (وبالطبع أنا) استعصى عليه فهم العبارة، خصوصًا وأن مقالات السقاف تصل مكتوبة بخط حاد، وإن كان جميلًا، ما يتطلب جهدًا مضاعفًا في مراجعتها. معلوم أن السقاف يندر أن يخطئ لغويًا أو نحويًا، وهو المعتني بلغته وتعبيراته. وقد اتفقنا على أن يكف الزملاء المدققون عن الاجتهاد في مقالات السقاف مهما كانت الظروف!

قلبت حزمة الورق التي مدني بها، فإذا هي مادة قيمة عن الأخطاء الشائعة في اللغة، ولغة الصحافة خصوصًا. قال لي "شوفهن لاحقًا!". احتفظت بهن، وعدت إليهن مرارًا، قبل أن يسطو بلطجية السلطة على "النداء" و"اللغة" في يناير 2012!

استطرادًا، استعادت "النداء" أرشيفها قبل عامين (يونيو 2020)، وقد عدت لقراءة بعض مقالات السقاف، فحمدت الله أنني في مصر، وهو هناك في روسيا "القيصرية"، وفصل الشتاء على الأبواب!

….

يعود آخر لقاء خاص بالسقاف في خريف 2010. كان الأستاذ هشام باشراحيل قد علم بتواجدي في عدن، فعزمني غداء ومقيلًا. وقد أسعدني أن ضيفه الآخر كان السقاف. وكان الاهتمام يومها بمحنة الزميل القدير هشام باشراحيل وصحيفة "الأيام".

ليرحم الله هشام باشراحيل، ويلطف بحبيبنا أبو بكر السقاف.