يوم التسامح العالمي قبل 13 عاماً: لماذا يجب أن تُسلم حمامة أو يتيهود أحمد؟!

فعالية التسامح إذ يتحدد بالآخر المختلف 2009
فعالية التسامح إذ يتحدد بالآخر المختلف 2009

هي فعالية طوعية متواضعة أهديها للطفولة المعذبة والمنهوبة في العالم، وعلى نحو أخص في بلادنا: اليمن.

أهديها لذلك الصديق الذي وفر من راتبه تكاليف رحلة العمر التي طالما حلم بها، وأنجز حلمه بالوصول إلى اليمن السعيد، بلاد الأرق أفئدةٌ، ليرجع إلى بلاده وفي عقله مئات الحكايا والمغامرات، فكان القتل أفجع من أية حكاية، وإذا به يصبح خبرًا يتصدر ترويسات الصحف. وأهديها للعروسين اللذين خططا لأن يقضيا شهر عسلهما في أحضان الطبيعة الساحرة في اليمن، فتحول العسل إلى بركة دم وأشلاء.

أهديها لأولئك الأصدقاء: الأمهات والآباء ملائكة الرحمة الذين قدموا من شتى أنحاء العالم إلى جبلة، وأهدوا نضارة شبابهم ليبعدوا عنا شبح الألم والمرض، وأمنوا خوفنا من الموت لعقود من الزمن، فكان جزاؤهم القتل، فردوا بمزيد من المحبة: وصيتنا أن نقبر في اليمن: في جبلة.

وأخيرًا، أهديها للأطفال الألمان الذين خرجوا في شهر يونيو في يوم إجازة، ليتنزهوا برفقة أمهاتهم وآبائهم وأصدقائهم -ملائكة الرحمة أيضًا- في رحاب صعدة، فخرجوا ولم يرجع واحد منهم حتى اللحظة. مازلنا -ومعنا كافة عشاق الطفولة والمتصالحين مع فكرة أن العالم محبة وتسامح- نحلم بعودتهم إلينا وإلى ديارهم هنا وهناك، لنحدق في وجوههم التي طال واستطال غيابها. إنها رحلة مقلقة مرهقة لا تطاق. مازلنا ننتظرهم لنهدي فعالية التسامح: المحبة، المحبة، المحبة، لكل هؤلاء ولمن كانوا على منوالهم من رسل المحبة وملائكة الرحمة والتسامح نهدي لهم هذه الفعالية.

***

وبالمناسبة لن أحكيَ عن التسامح في قواميس اللغة والفلسفة والفكر، فذلك مجال اشتغال أوراق الندوة.

ولن أحكيَ عن التسامح بما هو سؤالُ محبةٍ وتسامحٍ وتعايش، ولن أنعي سؤالَ التسامحِ الغائب والمغيب الحاضر بقوة الآن، غدًا، برغم فراره من كل مفاصل حياتنا.

لن أذهب إلى أبعد من السؤال: لماذا هذه الفعالية؟ وهل نركض وراء هذا اليوم لمجرد اللهاث وراء موضة يومٍ عالميٍ ينشدُ التسامح؟

بكل بساطة: السؤال الذي نريد أن نبحثه، و بالأحرى: لماذا يحدث هكذا؟! لماذا تلتهمنا دائرة العنف والكراهية، وتفتك بأصدقائنا وأطفالنا؟ لماذا تتنامى دائرةُ العنفِ باسم المقدس، تستشري في شارعنا، وتستعر في مدرستنا في غرف نومنا، في أرديتنا، وألحفة البرد، وملايات الصيف؟ لماذا لم نعد نحدق في شروق الشمس ومغيبها، وإطلالة القمر، ومد البحر وجزره، وتنشق عبق الريحان، وترنم ذلك العصفور الذي نوصد نوافذنا في حضرته؟

**

وبالمناسبة، أيضًا: قبل عقدين من الزمن كنت محمومة بزيارات المناطق اليمنية، وفي أثناء عملي كمدرسة، رأيت لغة واحدة: نحن الحقيقة، نحن من يمتلكها فقط، نحن خير أمة، وعدانا أشرار، نحن الملائكة، وهم الشيطان. الكثير من تقديس الأنا وتضخمها المريض الواهم والواهن في مقابل الأنوات الأخرى المدنسة.

لقد رأيت ولمست التعابيرَ المشحونةَ بالكراهية لكل ما يخالف ويختلف عنا في المدرسة، وأنا أدرس مواد الفلسفة المضادة والمتعارضة لقوانين الفكر الأساسية. وفي الشارع ولغته التي لا تختلف عن مرافق الحياة الأخرى، نتحدث عن التسامح في الشارع ونحن نكرع إلى جوفه كل أدوات القتل والكراهية. نتحدث عن التسامح في الإعلام، ونرى سيلانات الدم والعداء والبغض، وكذلك الحال في الجامعة والمعاهد والمراكز وكثير من مرافق الحياة، لغة التسامح منعدمة، والمحزن أن ما يكرعه المسجد، يدفع كل أطياف المجتمع نحو الهاوية.

صورة للسياح في متحف بيت الموروث الشعبي.. تراث التنوع والاختلاف
صورة للسياح في متحف بيت الموروث الشعبي.. تراث التنوع والاختلاف

وأيضًا من نحسبه متسامحًا تجده يحصر معنى التسامح في ثنائتين كلتاهما قاتلتان: إما/ أو، فلغة التسامح لا تحتمل التشويش والضبابية والانتقائية، أن نكون إنسانيين أو لا.

ولذا صرنا نلهج بالتسامح ونعمل بنقيضه، وهذا ما لمساناه في معارض الكتاب ولسنوات طويلة، فما يقذف في زواياه وواجهاته بأسعار مخفضة، ليست كتبًا، بل قنابل وأحزمة ناسفة، فكل طفل يشتري ما يسمى كتابًا، هو يشتري قنبلة لا تنفجر فقط عليه، بل وعلى الآخرين، وأولهم أفراد أسرته.

جانب من الحضور الأعزاء الشاعر أحمد قاسم دماج، ودكتور علم الإجتماع عبده علي عثمان.. والباحث أحمد الجبلي
جانب من الحضور الأعزاء الشاعر أحمد قاسم دماج، ودكتور علم الإجتماع عبده علي عثمان.. والباحث أحمد الجبلي

رأينا بغضب وقهر كيف تتوارى 5 دور نشر للتفكير الحر والعقلانية والفلسفة والأدب والفن، إلى الخلف، وتترأس كتب الكراهية والتعصب والفكر المتشدد الواجهات. فأيّ تسامحٍ وتعايشٍ وسلام ٍ نتحدثُ عنه ونحن نرى ونشاهد مفاصل حياتنا تتدمر، ويسلب منا حياتنا وأمننا وأماننا، وكيف سيكبر أطفالنا، والعدائية والتشدد والكراهية تلاحقهم بهستيريا مسعورة في حركتهم ونبضهم!

**

عندما كانت تحكي لنا جداتنا، كنا في كل مرة وكنا نضجر من حديثها وحكاياتها المتكررة عن صديقتها وصديقة نسوة القرية، تلك المرأة اليهودية التي كانت المطببة والمولدة لنساء القرية، وكيف كن يتبادلن همومهن اليومية على كوب قهوة القشر في حقول القرية وعند عتبات البيوت.

تحكي لنا كيف كان البساط أخضر، ولغة الطيور والشمس مفتوحة على همسهن وضحكاتهن وأنينهن.

فلماذا يجب أن تسلم "حمامة" أو يتهود "أحمد" أو العكس؟! والإجابة لماذا لا تكون المحبة هي الملغية لا إما/ أو؟!

جانب من الحفل
جانب من الحفل

**

الأعزاء والعزيزات: لقد جسدنا لغةَ التسامح في هذه الفعالية فعلًا من قبل كل المشاركين المتطوعين، وتعمدنا أن نُسمع أصواتنا المفتوحة على الكون، لا أن يصبح التسامح -المحبة لغوًا فقط.

هذه الفعالية أتت من قبيل الرد على تغول اللاتسامح باسم التسامح في كل مفصل من حياتنا.

**

مشاركة من أحبائنا البهائيات والبهائيين
مشاركة من أحبائنا البهائيات والبهائيين

وسأحكي "ما حدث معي" عندما ذهبت بمشروعي لإقامة هذه الفعالية، قبل 5 أشهر، إلى جهات رسمية وأسماء لامعة لها علاقة بالشأن الثقافي، لدعم فكرة التسامح، وسمعت كلامًا معسولًا من كافة الذين التقيتهم، وهو كلام يزجك في قمقم لن تخرج منه إلا إلى بحر من الإحباط.

وقصدت إرسال مشروعنا إلى جهتين أجنبيتين، ولعل الوقت لم يكن بكافٍ، فالأمل كان معقودًا على الطرف اليمني، فضاع دعم المشروع في اللاءات والانتظارات، وسراب الأمل.

وفي اعتمال الخيبات، تحدثت للباحثين والمهتمين بشفافية، هل أنتم مستعدون لأن نشتغل بالكفاف، وكان الرد: سنكتب، ونعمل، ولا نريد فلسًا واحدًا. والدليل على ذلك هذه الوجوه السموحة التي أتت لكي تفتح النوافذ الموصدة لتدخل هواء الكتابة المنعش المتجدد.. لنحيا.

جانب من الاحتفال الموسيقى.. بيت الثقافة.. أروى عثمان بمعية المذيعة ليلى ربيع
جانب من الاحتفال الموسيقى.. بيت الثقافة.. أروى عثمان بمعية المذيعة ليلى ربيع

**

فعالية التسامح إذ يتحدد بالآخر المختلف 2009
فعالية التسامح إذ يتحدد بالآخر المختلف 2009

في فعالية التسامح لا ننشد مدينةً مثاليةً ويوتوبيا أفلاطون والفارابي وجون لوك، نحلمُ وندافع ألا يبقى صوت الحياة صوتًا واحدًا، ولا لونًا واحدًا، ولا شكلًا واحدًا جامدًا، فالكون يتسع لجميع الألوان.

ملصق الفعالية
ملصق الفعالية

في هذه الفعالية، وفي هذا اليوم 16 نوفمبر (العيد العالمي للتسامح)، نطلب أن يتأنسن كل ما ومن حولنا: الطبيعة، أنسنة التعليم، والأساتذة، أن يرد الاعتبار لساحة العلم والمعرفة مفصولةً عن أيديولوجيات القيامة، وحشر الآخرة في دروس الفلسفة والفيزياء والرياضيات، أنسنة المسجد بالدين لله والوطن للجميع أيًا كانوا، أنسنة الشارع والحافلة والمطعم والرصيف، بزرع الأخضر، وقبله بزرعه في أرواحنا، إشاعة ثقافة التنوع والأنسنة، رد الاعتبار للفن والفنانين الذين يموتون مرضًا وقهرًا في أروقة المستشفيات كالكلاب الضالة، ولعل آخرهم "هاشم علي"، وقبلهم قوافل من المنسيين الذين نشروا الحب والمحبة في أرواحنا وكل من حولنا: منى علي، محمد سعد عبدالله، محمد عبده زيدي، ولا ننسى في هذا اليوم أن نحيّي الفنان أيوب طارش، الذي يصارع المرض، بدفتر تبرعات من محبيه، ومؤسسات الدولة تغرق في العدم، ولجمال داؤود، والكثير الكثير نحيهم في هذا اليوم، ونطالب اليوم وغدًا برد الاعتبار للرقص والمسرح والغناء، للسينما، للمبلس الملون، في كل المدن: صنعاء عدن يريم عدن صعدة، لكل اليمن ريفًا وحضرًا.

أخيرًا:

في هذا اليوم، أحيي الوجه الآخر من وجوه التسامح: المرأة، رمز الخصوبة الأخضر، الوجهَ المعانق للشمس ودورة القمر.. ونقول: أما آن الأوان لرد الاعتبار لوجهها وجسدها.. رد الاعتبار لألوان الطبيعة في ملبسها.. فلا تحتمل النساء مزيدًا من العورات التي تلاحقها في حياتها ومماتها.

من الأعماق أشكر أستاذي القدير الشرفةَ المبهجةَ المفتوحةَ للتسامح والمحبة عبدالعزيز المقالح، وأشكر إدارة مركز الدراسات لفتحهم واستضافتهم فعالية التسامح.

وأشكر كل الباحثين فردًا فردًا، من أطياف شتى، وأديان وتقاليد مختلفة، أشكر كل الأطفال الذين تمنيت لو شاركونا، وهم الأهم، لكن لم نستطع أن ندخل المدارس!

أشكر الشباب الذين ساعدونا في إنجاح هذه الفعالية: هيام، أروى عبدالله، هند، نضال، حسام، أوراس.

الحاخام يحيى يوسف من المشاركين في الفعالية مع مجموعة من يهود اليمن وبجانبه الدكتورة نجاة صايم، والكاتب جمال جبران
الحاخام يحيى يوسف من المشاركين في الفعالية مع مجموعة من يهود اليمن وبجانبه الدكتورة نجاة صايم، والكاتب جمال جبران

أشكر الأستاذ العزيز فؤاد الشرجبي، والبيت اليمني للموسيقى، الذي طالما تفاعل مع فعاليات بيت الموروث الشعبي، وسيحيي معنا الأمسية الموسيقية، وله ولفنانينا وفناناتنا أجمل تحية وتقدير .

جانب من معرض صور فوتغرافيا للتسامح فيه التنوع الثقافي والديني
جانب من معرض صور فوتغرافيا للتسامح فيه التنوع الثقافي والديني والدكتور عبدالعزيز المقالح، ووزير الثقافة أبوبكر المفلحي
جانب من الحضور
جانب من الحضور

أشكر أيضًا وكالة سبأ للأنباء ممثلة بالأستاذ القدير نصر طه مصطفى الذي دعم ملصق الفعالية ونشره مع إصدار صحيفة السياسية ليومنا هذا. وأشكر كلًا من الأستاذ محمد راوح، والأستاذ فؤاد المصباحي لتفانيهما في إنجاز الملصق. ولا أنسى أن أشكر الأستاذ حمود منصر الإعلامي المعروف الذي تبرع بكاميرته وطاقم التصوير لتوثيق فعالية التسامح.. أشكرهم جميعًا، ومعهم كل الذين أسهموا برسم لوحة المحبة.. لوحة التسامح.

 

16/11/2009