المليون شلن: ما بين مقديشو الصومال ومقديشو اليمن

عن رحمة فتاة البرميل واللا "مليون شلن"

غلاف رواية رحلة مليون شلن - ليلى السياغي
غلاف رواية رحلة مليون شلن - ليلى السياغي

على لسان رحمة بطلة الرواية، ذات العيون الزرقاء، والبشرة السمراء، تورد الكاتبة ليلى السياغي:

"هل فعلًا صارت في بلد آخر؟ أبناء جلدتها صبغوا هذه الأرض بصبغتهم! فكل شيء هناك. مقديشو الصغرى هنا لا تختلف عن مقديشو الحرب والخوف والجوع والهروب هناك. لا تدري ما ستفعل، ولا أين سيحط بها قدرها، فأحست أنها فرت من موت إلى موت، من حرب إلى حرب أخرى أبطالها الأجساد والقلوب... ها هي قد انتقلت إلى أرض جدباء أخرى، وأفواه أخرى، كجهنم لا تكتفي" (ص128).

رحمة! ليس لاسمها ومعناه نصيب، جسدًا وروحًا من يوم ختانها (تطهيرها) بحسب التقاليد الصومالية، حماية لشرف المرأة، فتنجو هي، فيما تموت صديقتها "رحمية" إثر الختان. ثم تلظيها بالحرب، وانفجار مليشيات الشباب المؤمن، والجهاديين، وتجار الحرب، والمهرِّبِين، والمهرَّبين، ثم الانتهاكات الجسيمة من قتل وموت، وحرب سفلية هي الأقذر والأعنف، بخاصة تلك التي تتلطى بالمقدس، ويلعب دور البطولة فيها شيخ: لحية وسجادة وآيات القرآن والتداوي به، فهم أيضًا من أمراء الحرب، أكانوا رجالًا، كمشايخ الفقه، أو نساءً "القوادات"، والكل يشتركون بتجارة الجنس والرقيق والإبادة كما حصل لرحمة "فتاة البرميل"، حسب وصف الروائية المبدعة ليلى السياغي، في روايتها "رحلة مليون شلن خمسين دولارًا"، الصادرة عن دار عناوين، 2022.

استطاعت الرواية أن تدخلنا في دهاليز سوداوية لانهائية، عكست بصورة متفردة مناخات وأجواء الحرب، والانزلاق إلى هاوياتها السحيقة: الذعر، الاغتصاب، الاختطاف، الجوع، والضياع، التشرد والشتات... الخ. ما إن نتنفس الصعداء بانجلاء غمة رحمة، حتى نغرق في حفر جهنمية لا ترحم.

أكثر من مرة، ما إن أشرع في قراءة الرواية، حتى أصاب بالانقباض، والحزن على رحمة وكل رحماوات الحرب والمليشيات، فأسرع بإغلاق الكتاب، أفتحه مرة أخرى، لأواصل القراءة، بفضول وشغف لمعرفة كيف ستنجو رحمة من منزلق لهاوية أليمة قادمة؟!

رواية صادمة، والصدمة الأكثر توحشًا: صدمة الحرب، انفجار الغرائز، حتى لدى أولئك الذين تلظوا بنيران الحرب والامتهان.

الرواية، وبطلتها رحمة، جددت في أذهاننا صور وذكريات الأصدقاء والجيران من الصوماليين، ومن رأيناهم يشتغلون في البيوت، أو الشوارع، أو في الطرقات الطويلة، أو يغسلون السيارات، وأنا أسترد بعض ملامحهم اليومية، كلهم كانوا: رحمة، إلا من نجا من المهالك، بمعجزة، حتى الصوماليون الذين رأيناهم في بلاد الهجرة وطوابير اللجوء، رأينا البحر والقارب، والعجوز صالح، والبرميل، والمهربين، وبلوك3 في "بساتين عدن"، مساحة الألم التي تكسو ملامحهم.

استطاعت ليلى أن تنقلنا بين الأحداث/ المهالك، بسلاسة، رغم وخزها الدامي في نفوسنا.

نقلتنا ما بين ما يحدث في مقديشو الصومال الكبرى، ومقديشو الصغرى "جنة عدن" والبساتين، وليس من أسمائهن نصيب كرحمة.

فالبساتين، وبلوك رقم 3، الأرض المحروقة من العالم السفلي بطبقات وطبقات، الذي فيه كل ما يخطر ولا يخطر على البال، وهو مجتمع مصغر يتوحد فيه الصومالي باليمني على خط الحرب والتوحش، على غرار ما يحدث أيضًا في البلدان التي تتلظى بالحرب والمليشيات، وتجار الحرب وأبطالها. ورحمة هي الإنسان/ الضحية.

رحمة "فتاة البرميل"، ذات العيون الزرقاء، والسحنة السمراء، برميل ينجيها من قصف الحرب واستباحة المليشيات لبلدتها في الصومال، لتخرج وترى أسرتها قد أبيدت، وكذلك جيرانها، لتخرج وقد تمزق وتناثر واحترق كل ما حولها: الجثث، والذباب وآكلة الجيف. لتصير بعد ذلك نهبًا للذئاب البشرية التي لا تشبع، وتجار الحرب والمشايخ في مقديشو الصومال واليمن، حتى بعض الناجين يتوحشون، ويقتصون من كل رحمة. تتقاذفها الأجساد الجائعة والشرهة، حتى يغدو "ما بين أرجلهم" سلاح حرب، مقذوفات غرائزية، لا تقل عن حرب الصواريخ، والدم والجثث. سيف الجنس في الحروب واللادولة، لا يقل عن أية حرب دموية.

حتى المرأة العجوز، والتي استنجدت بها رحمة، تجد فيها بيضة ذهبية، لتعلم رقبتها بالوشم الشبقي الذي يظل لعنة تطاردها وتستنزفها، تطرد نومها وحلمها مثلها مثل الختان والحرب ومليشيات القتل، يتلذذون بها، وبعد ذلك يبصقون عليها، من أنها فتاة جنس، حشرة يجب دوسها.

لعنات متسلسلة من عيونها الزرقاء التي خلقت بها، لتخسف بمصيرها، وتحيلها من آية للجمال إلى آية في التعذيب والاستنزاف، والعبث المجاني من قبل الرجال الغرائزيين، تحاول رحمة حجبهما بالنقاب، لكن سرعان ما تنكشف، مثلما ينكشف وشم رقبتها، هكذا رحمة ابتليت بالحرب ودوائرها الجحيمية، حيث لا تستطيع الفكاك منها أبدًا، ما إن تتحرر من واحدة، حتى تغرق بالخيبات واللعنات الجديدة، تقتص منها جسدًا وروحًا من مقديشو مرورًا بعدن، وصولًا إلى صنعاء. رحمة سائبة سائغة لأشداق ومعاول الرجال الذين التهب سعارهم بالحرب والأفيون، وظلوا يتناهشونها، جسدًا وروحًا، بلا رحمة، رحمة وطن اسمه الصومال واليمن.

حتى حلمها بالحصول على مليون شلن (ما يساوي 50 دولارًا بالعملة الصومالية) لتتحرر، وتهاجر، يضيع، فكلما جمعت المليون، يأتي من ينهبه من القوى الباطشة، وحتى من قبل اللصوص الضحايا أمثالها.

الهربة بطعم ولون واحد، من مقديشو الصومال إلى جنة عدن، والبساتين، وصنعاء، وكلها لها مسار واحد، إنها الحرب والمليشيات وتجارة الرقيق. جنة من نار، وبساتين من جمر ودين، لا فرق بين قصر شيخ القبيلة والمرافقين، والحرس، والحشود، والثراء الفاحش، وأقنعة السلطة في صنعاء، عن شيخ الدين أمير الحرب في بساتين عدن.

نعم، ما أشبه بلداننا ببلوك 3 في الرواية، حاراتنا، وشوارعنا، وبيوتنا، وشبابيكنا، حتى وإن أسدلنا الستائر الثقيلة السوداء، وحجبنا الضوء والشمس والهواء، فالسوس ينخر من الداخل، ويأكل الرحمة، ومليون رحمة ورحمة تفترس باسم التقوى، والزيف. هذا البلوك (3) هو الضحية والجلاد معًا، انتهجته الأنظمة الديكتاتورية، مفرخة بانهيارها مليشيات المحاكم الإسلامية، والشباب المؤمن، الذين لا يختلفون عن دواعش ومليشيات اليمن.

تختتم الحكاءة المبدعة، ليلى السياغي:

"لقد أيقنت أن الخمسين دولارًا هي رفيقة دربها، وكأنها مصابة بها، وبعينيها الزرقاوين. لعنة الخمسين المبتورة، الخمسين دولارًا هنا، والمليون شلن هناك".

رائعة كانت هذه السردية والساردة المبدعة.

قد يهمك أيضاً في النداء:

البوح الصومالي (ملف عن اللاجئين الصوماليين)