الاشتياق الى الحراك الجنوبي ومحكمة الصحافة… وبشير السيد!

ارتبطت البدايات الأولى لعملي الصحفي بصحيفة النداء، حيث بدأت العمل مراسلًا لها في محافظة الضالع، منذ بداية العام 2007 (قبل أن أنتقل إلى عدن بداية العام 2010، وأصبح مراسلها من هناك)، وكنت قد بدأت أنشر مقالات و.قارير في صحيفة الوحدة التابعة لمؤسسة الثورة الحكومية، منذ العام 2005، وجاءت بدايتي مع "النداء" بالتزامن مع انطلاق فعاليات الحراك الجنوبي ولأن الضالع كانت الساحة الأبرز والأكثر تفاعلًا مع أنشطة الحراك المتصاعد، فقد استأثر بنصيب الأسد من تغطياتنا الصحفية، من الأخبار والتقارير والمقابلات وغيرها، وقد تميزت "النداء" -بشهادة كثيرين- بأدائها المهني، واهتمامها بالقضايا الإنسانية والاجتماعية، وتناولها بموضوعية ومصداقية، ومن ذلك تسليطها الضوء على الحراك الشعبي في الجنوب الذي بدأ حينها من خلال فعاليات جمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين، وفي المقدمة جمعية المتقاعدين بالضالع التي ترأسها الدكتور عبده المعطري.

فتحت "النداء" بقيادة ربانها الماهر الصحافي المخضرم سامي غالب، نوافذ جديدة في العمل الصحفي، بتركيزها على قضايا إنسانية على قدر كبير من الأهمية، كقضية المخفيين قسرًا والسجناء المعسرين واللاجئين والمهمشين، بالإضافة إلى قضايا البيئة والتعليم وحقوق الإنسان، علاوة على ذلك سجلت الصحيفة لها علامة مميزة في عالم الصحافة، واكتسبت قلوب القراء والمتابعين، بخاصة وأنها كانت منبرًا لكبار الكتاب والصحفيين من كل المحافظات اليمنية والتيارات الفكرية والسياسية، وكثيرًا ما أشاد بها الساسة والمثقفون من مختلف المشارب والانتماءات السياسية.

ما إن بدأت عملي لدى "النداء" حتى تعزز شعوري بأني محظوظ في الانتساب لمدرسة صحفية بحجم "النداء"، ومع كوكبة من الزملاء الأعزاء، وفي مقدمتهم العزيز سامي غالب الذي كان يستنكر علينا مناداته بـ"الأستاذ"، كان دائمًا يقول لنا: أنا لست أستاذًا، نحن كلنا أصدقاء نتعلم من بعض، وكان يعزز تلك العبارة في تعامله معنا، بكل بساطة ومودة، لم نكن نتلقى منه توجيهات أو أفكارًا جاهزة، خصوصًا نحن المراسلين، بل كان يحرص على مناقشتنا واستفسارنا عن القضايا والموضوعات التي يتعين علينا تغطيتها، ومرة كنت أتحدث معه عبر الهاتف، ولفت ذلك انتباه زميل لي كان يقف بجانبي حينها، وقال بعد انتهاء المكالمة: أنتم محظوظون برئيس تحرير يتحدث معكم كأصدقاء دون توجيه الأوامر وإلقاء كلمات التوبيخ والعتاب.

الزميل الراحل بشير السيد
الزميل الراحل بشير السيد

كانت فترة العمل مع "النداء" حافلة بالنشاط والمثابرة والمتابعة، لاسيما مع تسارع وتيرة الأحداث والتطورات السياسية والعسكرية والأمنية في جنوب اليمن وشماله، ففيما كان يتنامى الحراك الشعبي جنوبًا كانت تستعر حروب صعدة شمالًا، ولكل منهما آثار ونتائج وتداعيات كانت تلقي بظلالها على المشهد السياسي والإعلامي، كانت تأتي الاتصالات من الزملاء في مكتب "النداء"، لتحثني على الإسراع في إرسال المواد، لاسيما الصديق العزيز الراحل بشير السيد، فطالما شفع حديثه بالنكات والتشجيع وتهديدي اللطيف: سامي بيزعل منك إذا لم ترسل المواد في الموعد المحدد (رحمة الله على بشير، كان دينامو الصحيفة الذي لا يكف عن التواصل مع الكتاب والمراسلين على مدى الأسبوع).

وبشهادة الكثير من قيادات الحراك الجنوبي ونشطائه، كانت "النداء" من أكثر وسائل الإعلام حضورًا وتغطية ومتابعة لفعاليات الحراك ومحاورة قياداته ورموزه سواء في عدن أو في بقية محافظات الجنوب، بخاصة الضالع وردفان، وكان لملاحظات سامي واقتراحاته أثر كبير في تصويب أعمالنا وتحسين أدائنا، وبحكم علاقاته الواسعة مع قيادات سياسية فقد فتح لنا آفاق الحوار والتواصل معها، وكان العزيز سامي ينظر لما يجري ببعد نظر، وكثيرًا ما سجل آراءه وأفكاره وملاحظاته في مقالاته التي يكتبها باسمه.

بعدما شنت الحكومة حربها على الصحف، كانت "النداء" في طليعة الصحف التي صدرت الأوامر بإيقافها، وإحالة عدد من كتابها ومحرريها لنيابة الصحافة ثم للمحكمة، تعاملت قيادة "النداء" بكل مسؤولية، وواجهت اتهامات وزير الإعلام سواء في النيابة أو في المحكمة، وقد طالت الاتهامات رئيس التحرير سامي غالب، والكاتب الراحل عبدالرحمن ميفع، والزميلين العزيزين شفيع العبد وعبدالعزيز المجيدي وأنا.

قرار إغلاق الصحف شمل 8 صحف، أما الصحفيون الذين طالتهم الاتهامات فكانوا قرابة 40 صحفيًا، التزمنا بالحضور أولًا في النيابة، وثانيًا في المحكمة، وأتذكر أول يوم لنا أمام ممثل النيابة الذي بدأ يطرح علينا الاتهامات بعدما بسط أمامنا مجموعة من أعداء النداء، وفيها بعض العلامات والخطوط باللون الأحمر (كإشارة إلى أن الكلمات التي تحتها خط تتضمن عبارات ومفردات يعاقب عليها القانون). كنت مع سامي الذي يقتضي القانون وجوده معنا في كل الجلسات، أولًا لوجود اتهامات لمقالاته، وثانيًا لكونه رئيس تحرير الصحيفة، وهو متهم بقدر كل واحد فينا، في ذلك اليوم سألنا وكيل النيابة: لماذا لم يحضر زميلكم شفيع العبد؟ أخبره سامي أنه قادم ولن يتخلف عن مناسبة مهمة كهذه! ولكن سفره من محافظته (شبوة) إلى العاصمة صنعاء يحتاج وقتًا أطول، ثم أضاف قائلًا: وبما أن صديقي شفيع من محافظة بعيدة، فأتمنى من النيابة تقدير ظروفه، وأرجو أن تمنحوه وقتًا إضافيًا أسوة بالدرجات التي تمنح لأبناء المناطق النائية!

وبعدها حضر شفيع والبقية جلسات النيابة، ثم عقدت المحكمة جلساتها، ورغم وجاهة ما قدمه محامي "النداء" الأستاذ نبيل المحمدي، إلا أن المحكمة أصدرت حكمها القاضي بحبسنا 3 أشهر، مع وقف التنفيذ، وقد التزمت "النداء" بقرار الإيقاف مثلما ألزمت صحفييها بحضور جلسات النيابة والمحكمة، وبعد ذلك عاودت "النداء" الصدور بعد زوال أمر الإيقاف، وكثيرًا ما وقفت العراقيل أمام الصحيفة، ما أجبرها على الاحتجاب مرات عديدة، لكنها استمرت في أداء رسالتها رغم صعوبة الوضع وقلة الإمكانيات.

قبل أكثر من عام كان سامي ينقل لنا خبرًا جميلًا مفاده أن الصحفي رياض الأحمدي تمكن من استعادة أرشيف موقع "النداء"، وقبل أيام بدأ الموقع يعمل من جديد، بالتحديثات الجديدة، وبعرض الأرشيف الثري بكل ما يخص المرحلة الزمنية السابقة وما سجلته "النداء" من شهادات، وما وثقت من أحداث.

وبهذه المناسبة، نوجه التحية لقيادة "النداء" وكل جنودها المجهولين، وما أكثرهم على امتداد رقعة اليمن وفي الخارج.