«النداء» تفتح ملف المختفون قسرياً:أحزان آل  «عون»

مصيرهم الشاق انتظار «عبدالعزيز» والامن الوطني كالمخرز في قلوبهم

أحزان آل  «عون»

* محمد خميس لوالده: عاندفنك في حفرة لو مابطلت تدور على ابنك عندنا

موجع هو الانتظار حين لا ثاني له  و الأوجع تلك الذكريات الحميمة التي يحملها المنتظرون عن أعزاء ينتظرونهم.

لكن الانتظار مصير الحالمين الشاق ولا من فرار.

فيما سيبدو صراخهم على أمل الشفاء بمثابة أوجاع تتفاقم خصوصا إذا ما شعروا بان المساحة من حولهم قد صارت لا متناهية بالصمت وفسيحة باللاجدوى!.

البحة المغصوصة في صوت الدكتور جميل عون كانت تشير إلى ذلك وهو يحكي للنداء مأساة أخيه المختطف والمغيب منذ 30 عاما إضافة إلى أحزان العائلة التي ما زالت تنتظر.

فتحي أبو النصر

إن اليأس يمتزج بالأمل لدى آل  "عون" وهم بانتظار عبد العزيز ولا يعرفون مصيره بعدما راح ضحية لجهاز الأمن الوطني الذي صار كالمخرز في قلوبهم.

في 6 فبراير 77م اعتقل النقيب عبد العزيز عون من جانب سور الجامعة القديمة بصنعاء "كلية الآداب حاليا " عبر سيارة فلوكسويجين زرقاء جيب تتبع الجهاز سيئ الصيت.

طبق شهود فان العملية تمت بقيادة نائب رئيس الجهاز حينها.

كان عبد العزيز منذ صغره  مأخوذا بالمسألة السياسية وأمنيته أن يصير ضابطا لذا التحق بالبعث ولاحقاً بحزب الطليعة، الذي صار جناحه اليساري وقد عرف كعضو ناشط ومؤثر فيهما كما عد واحدا من انبغ الذين دخلوا الكلية الحربية حيث تخرج فيها  بتفوق.

في العام 53م ولد بقرية المذاحج - تعز وتشكلت لبنات وعيه الأولى ما بينها وعدن بعد انتقال العائلة إليها مؤقتا قبل استقرارها النهائي في تعز.

باختصار: انه ابن المناخ الستيني العاصف الذي حرك في المنتمين إليه تطلعاتهم من اجل يمن جديد.

في العام 68م قرر  وأخيه منصور أن يلتحقا بالكلية الحربية فكانت مغادرتهما إلى صنعاء لكن والدهما تفاجأ باختيارهما الدراسي إذ كان يريد لهما دراسة الطب أو الهندسة فاستدعاهما للحيلولة دون الحربية لكأنه يحدس ما سيواجهانه من مصائب بسببها.

غير أن منصور هو الذي عاد إلى تعز  وتراجع.

لم يعد عبد العزيز إذ كان عشقه الكبير للدراسة العسكرية هو مشتهاه الذي صر على عدم الاحادة عنه.

تم التحاقه  بالدفعة التاسعة التي تميزت باحتوائها لنبهاء مبرزين اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.

تفرد بتحصيله الدراسي نظريا وميدانيا وظل ترتيبه الأول في جميع المراحل والمتعارف عليه أن الأول في حفل التخرج هو من يسلم العلم للدفعة التالية كما ويبقى ضمن سلك أعضاء هيئة التدريس فيها لكن عبد العزيز حرم من الأمرين معا!

السبب حد إحالة جميل ممارسته للعمل الحزبي ونشاطه الاستقطابي الناجع وسط العسكريين.

بعد التخرج تم تصدير عبد العزيز إلى لواء العروبة في تعز ويتذكر جميل كيف انه كان ملفتا بحيويته العسكرية حتى أن مشيته كانت كذلك في أفعاله المدنية أيضا!.

خلال تلك الفترة وقعت حادثة تعزز من المعطى النبيل لدى هذا الفتى وهي بحسب جميل كالتالي: تم القبض على احد الجنود التابعين لكتيبة كانت ترابط في منطقة الراهدة عند الحدود الشمالية الجنوبية ويشرف عليها اللواء وذلك عقب عودة هذا الجندي إليها بعد فراره لأيام مدعيا انه تاه بين الحدود لكن محاكمة عسكرية تمت له في مقر اللواء بمنطقة الحوبان أقرت اعدامه بتهمة التعامل مع الجنوب وقد أوقع القاضي أمر تنفيذ الحكم على عبد العزيز الذي رفضه بشدة باعتبار المحاكمة غير عادلة أولا وثانيا بان ليس من شانه تنفيذ مثل هذه الأحكام حتى ولو جاءته عبر أوامر عسكرية!

"مازلت اعتقد أن الجندي كان رفيقا لعبد العزيز وتحديدا كان يؤدي مهمة حزبية أثناء غيابه عن كتيبته"، يقول جميل ويضيف: "كأن الأمر الذي أعطي  لعبد العزيز لتنفيذ الإعدام بالجندي قصد إظهاره بموقف النذل مع رفقائه".

قضى عبدالعزيز ثلاث سنوات في تعز قبل انتقاله إلى عمران مع انتقال لواء العروبة  وتحول اسمه إلى اللواء الأول مشاة.

هذا اللواء اعتبر واحدا من أهم المواقع الميدانية  الحساسة التابعة للقوات المسلحة فيما لم يخفت النشاط السياسي لعبد العزيز. "كان لا يخشى شيئا"...: "كنا نخاف عليه فهو مراقب وعيون البصاصين لا ترحم"، لكن جرعة العقاب تزايدت تدريجياً؛ إذ تمت إحالته إلى  التوجيه المعنوي "لكأنه أحيل إلى معتقل أنيق" بحسب تعليق جميل.

آنذاك كان قد أصبح عبدالعزيز منتسبا بكلية التجارة جامعة صنعاء قسم الاقتصاد وكالعادة كان نبوغه هو المتجلي إذ ظل يحصل على المركز الأول بتقديرات عالية لكن قدره مع حق التعيين كمعيد تكرر في هذه الكلية أيضا إذ تم اعتقاله وهو في سنته الرابعة.!

حد شهود فان سيارة الفلوكسويجين الجيب الزرقاء التي نفذت مهمة اعتقاله توقفت لفترة أمام المنزل المشترك الذي كان لأخويه عبد القادر ومنصور والكائن في منطقة غرقة الصين.

عبد القادر ومنصور كانا في العمل حينها وهناك نسخة من مفتاح المنزل عند المؤجرة التي حكت لهما بان عبد العزيز جاء برفقة شخوص وطلب المفتاح منها فأعطته.

المفقودات التي حصرها الأخوان  تستدعي الغرابة كما تعمد غباء الأمنيين "عدسة مكبرة للحروف ومجموعة نظارات تتبع عبد القادر المصاب بضعف في بصره إضافة إلى جواز سفر لأخيهما  الثالث ياسين  وبعض الكتب التي تتبعهما "وكانت دراسية متخصصة وليست سياسية أو ثقافية كما يؤكد جميل مشيرا إلى أن "ما لا يعرفه  الخاطفون الامنيون هو أن عبد العزيز كان يسكن بيتا سريا آخر وفيه يجتمع مع رفاقه كما يحوي أية وثائق مهمة له. وقد كانوا فائقي  الحرص والتنظيم "

لوالد عبد العزيز مكابدات شتى مع الأمن الوطني إذ ظل مداوما على التردد عليه  لمعرفة مصير ابنه حتى وصل الأمر بمحمد خميس أن يقول له "عاندفنك في حفرة لو ما بطلت تدور على ابنك عندنا".  لكنه جاهد لمعرفة مصير ولده من خلال التقائه شخصيات اجتماعية مؤثرة وحثهم على المساعدة.

مرة قابل الدكتور عبدالعزيز المقالح في فعالية تأبينية وحين تصافحا قال له بصوت مكلوم "متى ستكفون عن الأموات وتبحثون عن الأحياء؟!".

اثر ذلك تقدم مجموعة مثقفين من بينهم الدكتور المقالح والدكتور أبوبكر السقاف بطلب للآمن الوطني للإفراج عن معتقلين من بينهم عبد العزيز لكن قادة الأمن لا يبالون عموما وعلى نحو خاص ظلوا ينكرون وجود عبد العزيز لديهم "

بيد أن  معتقلين سابقين تم الإفراج عنهم اجمعوا على  مشاهدتهم له في الأمن الوطني.

الحق أن  النداء التقت بمعارف لعبد العزيز شهدوا إحداثيات تلك الفترة جلهم تحسروا عليه واعتبروه "ملحوسا" وفقا للتعبير السائد وقتها أي أن تصفيته قد تمت كما اجمعوا على عدم ذكر أسمائهم هنا والاسباب مختلفة.

لكن  الدلائل  تظل غير مؤكدة ولذا فان تخميناتهم هي المحصلة الوحيدة كنتاج للرعب الذي انتشر أيامهم وماشاع من أجواء  شائكة ومشحونة بمختلف تداعيات سياسية-لازالت تلقي بظلالها إلى اليوم - نتج عنها قتلا مجانيا وافرا لناشطين ومناهضين ما أدى إلى إرباك التوقعات في الوعي العام وبالتالي الخاص ولذا كان لقضايا المعتقلين والمختفين أن يتم ترحيلها باعتبارها شديدة الحساسية بينما كان يحدث أن ترتفع الإشارة إليها بشكل نادر على عكس نسيانها القسري التام  في محطات أخرى.. وهكذا .

غير أن الجمرات تظل متأججة وهي تحت الرماد في حين تحمل عائلة عون الأمن الوطني مصير ابنها الملتبس .

ففي ابريل 77م شوهد  عبد العزيز في مستشفى "الثورة" تحت حراسة احد ضباط الجهاز الكبار " تولى بعد الوحدة منصب محافظ لإحدى المحافظات الجنوبية".

بعد أشهر قليلة من ذات العام شوهد  مرة أخرى في المستشفى العسكري ووضعه  الصحي أكثر من سيئ  والثابت انه تعرض لتعذيب فادح بسبب نشاطه السياسي حيث الحزبية تتوجب التجريم كما ولإفشاء معلومات عن رفاقه.

لقد غافلني الدكتور جميل بالقول- وكانت نظراته مشتتة لكأنما حنجرته تتمزق -أنا على معرفة بعدة أسماء كانت أخي في مسار  واحد وهي اليوم تتبوأ مواقع قيادية هامة في الدولة عسكريا ومدنيا"!

تأثرت العائلة لما حصل للحالم ذي الخمسة والعشرين ربيعا  وهي تتكئ منذ ثلاثة عقود على بسمة تركها دونما فائدة وفي العام 2003م مات والده كمدا وحسرة عليه رغم امتلائه  بيقين انه حي وحتى الآن مازالت والدته تنتظره على نفس اليقين بل أنها حثت واشرفت على بناء طابق باسمه فوق بيت العائلة ومن راتبه ممنية نفسها أن يعود ويسكنه ولقد شعرت بالدمعة الحرى لهذه المفجوعة بينما كان جميل يحثها هاتفيا على أن يرسل أخاه الأصغر «وجدي» صور عبدالعزيز إلى ايميلي للنشر. وكانت أدعيتها تتصاعد من السماعة على هيئة متصدعة.

يحكي جميل انه وأخاه ياسين حين سافرا للدراسة هو إلى روسيا وياسين إلى القاهرة اضطرا إلى إسقاط  لقب "عون" من اسميهما واستبداله بالمذحجي خشية المضايقات فحيث كان لا يتم منح جواز سفر إلا بعد موافقة الأمن الوطني الذي يمنح حسن السيرة والسلوك أيضا كان عبد العزيز مغضوب عليه  الأمر الذي  انجر على بقية أفراد العائلة حتى أن أخاهم  منصور الذي كان ناشطا سياسيا حينها ظل مختفيا عن الأنظار  لسنوات  بسبب المطاردة قبل أن تعرف العائلة انه سافر للدراسة إلى الخارج.

لم يكن عبد العزيز متزوجا حين تم اعتقاله بل كان يتهيأ لذلك  وبين أوراقه الشخصية ترك جملة قصائد. "كان يكتب الشعر ولا ينشر" كما مسودات لمقالات "كانت نشرت له جريدة "الجمهورية" خلال ذلك الزمن عدة مقالات بشكل متفاوت "إضافة إلى الرسومات "حيث كان  الرسم   هوايته المفضلة".

بين عبدالعزيز وجميل  أربع سنوات لصالح الأول وعنه يتذكر الثاني ما يلي: "كان نشيطا وأنيق الملبس ويهوى أغاني فيروز.. كان كريما ومتفاعلا مع مشاكل الناس..كان قارئا جيدا وبالذات للروايات العالمية.. كان جادا ومحاورا مقنعا والصفة التي لازمته كظله هي قدرته على الاستقطاب الحزبي".

وظيفيا استمر عبد العزيز في التوجيه المعنوي حتى اعتقاله في 6 فبراير اليوم المشئوم في ذاكرة عائلة "عون".

لم ينقطع راتبه من التوجيه وإنما يذهب إلى والدته ليس لأنه مفقود أو معتقل أو ميت بل كمتقاعد وبرتبة عقيد!

الدكتور جميل عون أستاذ الفلسفة في جامعة صنعاء يطالب عبر"النداء" الحكومة الحالية بكشف مصير أخيه عبد العزيز  وهو يشدد  على أن "الاختفاء لا تمحي مسؤوليته بمجرد انه تم في عهد الجمهورية العربية اليمنية بل العكس يتوجب أن تتعاظم المسؤولية اليوم في ظل الهامش الديمقراطي وبما يحقق ولو نزرا يسيرا لذوي المختفين كما أن ذلك ما  تستدعيه مقتضيات الشفافية وحقوق الإنسان من  الأنصاف وجبر الضرر.

***