ذهب يصطاد.. فاصطادوه!!

شأنه شأن معظم أبناء قريته عمل صالح سعيد عاطف، المولود في قرية المحلة 1938م (إحدى قرى لحج)، في الزراعة، وتربية المواشي وبيعها، وكذلك بيع المحاصيل الزراعية وهي بطبيعة الحال، موسمية، لينفق من عائداتها على أسرته، ويدخر ما زاد عن حاجته. طموحه وحسه التجاري حفَّزاه للعمل بدأب ومثابرة، ليضاعف مدخراته الأمر الذي مكنه من فتح متجر خاص به في مدينة الشيخ عثمان- حافة «الروضة» لبيع مواد البناء.استمر الشاب القادم من قرية المحلة، بدأبه ونشاطه منمياً تجارته الجديدة (بيع مواد البناء)، اتسعت تجارته وزادت مدخراته، ذلك دفعه لبناء منزل في شارع الحرمين، بالشيخ عثمان. بناء المنزل يشير بوضوح، الى عزم صالح علي للإستقرار والمضي قدماً لدخول القفص الذهبي ليتزوج من ابنة عمه، شمس صالح عاطف ويرزق بتسعة أبناء، سبع إناث وولدين هما عبدالكريم، وعبدالحكيم، أصغرهم.

استمر صالح في دأبه ونشاطه التجاري بنجاح. ودماثة خلقه وأمانته وحسن تعامله مع الجميع من تجار كبار وايضاً مع زبائنه، هذه الصفات التي يتمتع بها صالح، كانت اساس وعماد مهنته لتدر عليه ارباحاً ومكاسب في بيعه وشرائه مكنته من شراء سيارة مرسيدس تحمل لوحة رقم 12682م/الأولى. لم يكن صالح بعيداً عن الهم الوطني، حينذاك (عند انطلاق الثورة وبداية مرحلة الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني ) يدرك صالح جيداً أن عليه واجباً تجاه وطنه، وعليه أن يؤديه، لم يبخل ولم يتردد، بل جاد بالمال داعماً بسخاء.

13 يناير 1966م اقتتل الاخوة الاعداء، الجبهتين القومية، والتحرير، عرف هذا الاقتتال في عدن بـ«الحرب الأهلية» بعد أن وضعت هذه الحرب أوزارها، ظلت مشاهدها الدامية ومآسيها حاضرة بقوة في ذاكرة صالح، عذابات تلك الحرب وشراستها زرعت الخوف في نفس صالح على أسرته مقرراً حينذاك بيع منزله في الشيخ عثمان لأحد أقاربه ونقل أسرته إلى منزله الأول في مسقط رأسه بقريته «المحلة».

مساء يوم3/4/ 1972. قرابة الخامسة والنصف وبعد يوم عمل لا يخلو من تغب ومشقة أغلق باب متجره كالعادة، وأدار محرك سيارته المرسيدس (بيضاء اللون) مصطحباً معه ابن عمه درويش أحمد عاطف، الذي كان يتشارك وإياه هواية محببة لنفسيهما، بل انها متعتهما، يروحا عن نفسيهما بعد ان ينهيا أعمالهما بممارسة هواية التجليب (صيد السمك)ككثيرين من أبناء عدن، وكذلك ابناء المدن الساحلية.

اعتاد الذهاب لمنطقة كالتكس بالمنصورة للتجليب بشكل شبه دائم. يروي نجله عبدالكريم صالح، الذي كان عمره حينذاك 11 عاماً ( من مواليد1961) هذه الرواية التي سمعها عدة مرات من العم درويش ومن والدته ومن اعمامه الآخرين، وصلا المكان الذي اعتادا التجليب فيه ضمن عدة اماكن أخرى في المنطقة، لكن هواة مثلهما سبقوهما. ركن صالح سيارته واخرجا عدة التجليب، وشرعا في الصيد، صالح كان ذهنه متجهاً صوب سيارته. لم تعجبه وضعيتها لأن المكان الذي اعتاد أن يركنها فيه سبقه إليه احد هواة التجليب.

علقت بسنارة درويش سمكة، صالح اقترح على درويش الذهاب الى مكان قريب اعتاد التجليب فيه، لوجود مساحة فسيحة تتيح له أن يركن سيارته باطمئنان، درويش تفاءل بالمكان الذي هو فيه قائلاً له: سأبقى أنا هنا واذهب أنت هناك ولا تنس أن تمر علي في طريق العودة. وأردف، قائلاً: «تفرقوا ترزقوا». مضى صالح إلى المكان الآخر، ركن سيارته وأخرج عدته وشرع بالاصطياد (لايبعد المكان سوى أمتار قليلة). يقيناً لم يدر بخلد صالح وهو يصطاد أنهم عما قليل سيصلون ويصطادونه. مجموعة لا يعرف عددهم على وجه الدقة، كانوا يتابعون تحركاته وخطواته، سيارات قليلة تمر بعضها لهواة التجليب كصالح، وبعضهم يأتي ملتمساً نسيم البحر العليل في ليلة صيف، بعيداً عن ضوضاء المدينة. بعذ زهاء عشرين دقيقة أو أكثر قليلاً من مغادرة صالح باتجاه الموقع الآخر الذي اعتاد الاصطياد فيه، وبينما كان الليل قد بدأ يرخي سدوله بعيد مغرب ذاك اليوم، شاهد درويش من موقعه سيارة تمشي على مهل في ذات الاتجاه الذي قصده صالح، لا شيء يثير الشك أو الريبة في تلك اليسارة، استمر درويش بالتجليب، لم يمض كثير وقت، درويش يشاهد من موقعه سيارتين مغادرتين من اتجاه الموقع الذي يتواجد فيه صالح وتمران بالطريق الذي تفصله عنه قرابة 200إلى 250 متراً، لم يكن بوسعه تمييز سيارة صالح. السيارتان تمشيان على مهل، واصل درويش تجليبه بعدها انتبه درويش أن ساعة العودة قد أزفت، بدأ التوتر على درويش الذي كان يلقي سنارته ويرفعها بحركة عصبية، شعر أن انتظاره لصالح طال أكثر مما ينبغي، بدأ الضجر والتبرم من صالح الذي نسي نفسه ولم يأبه لوقت العودة. سيأتي الآن، سأبلغه بأني لن أصحبه مرة أخرى!! طال انتظار درويش واستحال إلى قلق أصبح نهباً للوساوس، قرر المشي الى موقع الذي ذهب إليه صالح. ليرى ما أعاقه، ما سبب تأخره!؟ ويتمتم، اللهم اجعله خير، اقترب من المكان وبدا كمن يصرخ في البرية يا صالح.. صالح ياص....ال....ح. لا رد ولا جواب. لم يدر درويش حينذاك أن نداءه ونداء اسرة صالح وذويه سيتمد ل35 عاماً دون جواب. إلا من رجع الصدى، أجال بصره في المكان الذي اعتاد صالح إيقاف سيارته فيه ليرتد اليه بصره منبئاً إياه أن لا وجود للسيارة.

تذكر السيارتين اللتين مرتا بمحاذاته، تساءل أتراه عاد ولم يمر بي؟! أنسيني؟! قطع المسافة راجلاً حتى وصل جولة كالتكس، أننتظر وصول سيارة أجره أشار لها، وقفت جواره، وركب عائداً إلى منزله في الشيخ عثمان، سأل ما إذا كان صالح أتى؟!

ألم تكونوا معاً؟! لم يأت جاءه الجواب. بلى كنا معاً لكن كل منا كان يجلب في موقع من المواقع التي اعتدنا الاصطياد فيها. سأل اقاربه الذين في الشيخ ما إذا مر بهم صالح، أسرته حينها كانت في زيارة أقارب لهم في الشيخ سألهم درويش أيضاً عن صالح. كل الاجابات التي تلقاها بأنه لم يأت بعد. عادت اسرته للقرية «المحلة». سألوا عنه هناك انصرف ذهن زوجته لعله ذهب هناك لم نره لم يأت. كانت الإجابة. القلق على مصير صالح تملك جميع أفراد اسرته. ثلاثة ايام مرت وهم يسألون أقاربهم وأصدقائه، والإجابه واحدة: لم نره، لم يأت!!

عرف درويش، وبعده أيضاً عرفت أسرة صالح، بأنه أصطيد أو أقتيد سيان، مساء يوم 3/4/1972. وفوق سيارته ومحاط بمتعقبيه كانت سيارة صالح تتقدم سيارة مصطاديه، ليمضي، رحلة طويلة الى المجهول.

يروي نجله عبدالكريم مواصلاً: ذهبت وعمي تتابع جهات الاختصاص، عن والدي نريد معرفة ما حل به، كنت حينها في الثانية عشر من عمري، لكن لا جواب منذ اختفائه قسرياً، ومطالبتنا للجهات المختصة مستمرة نريد أن نعرف مصيره.

ذهبنا لصالح مصلح، وزير الداخلة حينذاك، وكان مقر الوزارة في مدينة الشعب، خاطبناه شارحين له الطريقة التي اختفى بها والدي واننا نريد ان نعرف اين هو؟ وماذا حل به؟! رد علي وزير الداخلية قائلاً:إذهب لـ«محسن» رئيس جهاز أمن الثورة حينذاك (يقصد محمد سعيد عبدالله..) ذهبنا لمحسن رئيس جهاز أمن الثورة مرات عدة، ولكن رده علينا دائماً كان:« إنه غير موجود لدينا أذهبوا لوزير الداخلية»، أجبته بأن وزير الداخلية قال انه عندكم. رد غير موجود عندنا.

قابلت علي ناصر محمد، أردف عبدالكريم قائلاً، هو يعرف الوالد جيداً ويعرف ما قدمه من دعم للثورة، بود ظاهر، صادق، قابلني (يقصد علي ناصر) واعداً إياي: «سأبحث عنه... كان الوحيد الذي مد لنا يد العون والمساعدة، وفي مرات عدة ومناسبات عدة.

باختفاء الوالد قضوا على مستقبلنا، انا لم أكمل دراستي اضطررت للعمل لأضمن لقمة عيش كريمة لاسرة قوامها عشرة أفراد.

كان على شمس صالح عاطف( زوجة صالح) مواجهة أعباء الحياة لأسرة قوامها تسعة ابناء. فقدان شمس لزوجها أبو ابنائها وابن عمها بهذه الطريقة، مثّل لها صدمة عنيفة، اسلمتها لعدوين لدودين هما السكن وضغط الدم، هي مازالت منذ 35 عاماً تنتظر الزوج الغائب عله يطرق الباب الآن مع كل مناسبة كرمضان أو الاعياد الدينية والوطنية تتقد جذوة الأمل في نفسها عله يعود، يفرج عنه وعندما تسمع ما يشاع احياناً حول عودة بعض من اختفوا وحالفهم الحظ ليرجعوا لأهلهم تسكنها حالة ترقب وانتظار عودة الزوج وابن العم لتجتاحها حسرة عندما يمضي الوقت ولا يطرق الزوج الباب.

عديدون تقدموا طالبين الزواج من بناتها، ترفض طالبة من المتقدمين الانتظار حتى عودة الأب!! ألم وأمل في آن.

يكمل عبد الكريم روايته عندما سألته عن مصير سيارة والدة، قال:« لم تظهر إلا في عام 1978 وكانوا يدربوا عليها سائقي تاكسي لأول مدير للنقل البري في عدن آنذاك» طالبنا بها ولم يعيدوها لنا رفضوا!».

ألم يصرفوا لكم راتباً أو معاشاً شهرياً. مطلقاً منذ اختفاء والدي وحتى اللحظة التي اخطابك فيها لم نتسلم حتى فلساً واحداً من أي كان في الدولة سواء هذه أو التي كانت قائمة قبلها قبل الوحدة». اتصل بكم اي من منظمات حقوق الانسان الوطنية أو الاجنبية؟!تقصد المنظمات الوطنية المنظمات المحلية؟ «لم يتصل بنا احد يا أخي، الناس على دين ملوكهم هنا في هذا الوطن. ربما هم أنفسهم لم يحددوا بعد حقوق اي انسان يقصدون!! منظمة ا لعفو الدولية اتصلت بنا واستلمنا منها رسالة من فرعها في السويد 25/3/1994 (تاريخ وصول الرسالة).

وكذلك اتصلت بنا منظمة أخرى ذكرو في مراسلاتهم انهم سيخاطبون الحكومة لمعرفة مصير والدنا. نحن لم ولن نيأس من المتابعة والمطالبة لمعرفة ماحصل لذوينا اذا كانوا؟ أحياء اين هم؟ وإن ماتو» كيف؟ نريد معرفة ملابسات موتهم وإن قتلوا بأي ذنب قتلوا؟! وأين جثثهم وقبورهم؟ وإذا لم نتمكن من الحصول على إجابة لهذه الاسئلة فأولادنا واحفادنا سيواصلون من بعدنا».