إثارة الاشمئزاز

(6)المختفون قسريا العدد 109-27 يونيو 2007ً

توقعت أسرة «النداء» الأسوأ عندما قررت في أبريل الماضي فتح «ملف المختفين قسرياً» الملف الموحش الراسب في أعماق الذاكرة الوطنية، وإنْ طفا ففي علب مصممة من شعارات جوفاء وزخارف لفظية.

كان التقدير أن البيئة السياسية والثقافية والحقوقية ليست جاهزة بعد لمقاربة الملف بعقل مفتوح وقلب سليم. فإلى الحرب الدائرة في صعدة والحروب الصغيرة الناشبة في العاصمة، والالتهاب المزمن في المحافظات الجنوبية والشرقية، فإن النخبة السياسية في الحكم و(أغلب) المعارضة متورطة، على تفاوت ملحوظ، في جرائم الاختفاء القسري التي وقعت خلال العقود الأربعة الماضية.

وكان التقدير أن فتح الملف، كيفما اتفق، دون تحوط لسوالب البيئة ومثالب النخبة، سينزل «النداء» منزلاً تطوقه «شياطين التأويل» بما هي الطابور الأول، والأكثر جاهزية ومبادأة، في جيوش دويلات الحرب، المشتبكة غالباً، والمتعايشة احياناً داخل الوطن الافتراضي.

وقد توجب على «النداء»، إذ تُقدم، أن تدفع كل هذه الأخطار بآليات حمائية متنوعة، بعضها ناجز: فإلى «ميثاق شرف» الصحيفة، لزم مراعاة اعتبارات سياسية وإنسانية شديدة الحساسية، تخص أسر الضحايا، والتسلح بوعي شمَّال لخصوصية الملف، وسياقاته التاريخية ومترتباته المستقبلية خصوصاً وأن شواهد عديدة ماثلة تقطع بأن التغطية الموضوعية المعمقة والمستمرة، المنزهة من التحيزات السياسية والعقائدية- ستربك جماعات في الحكم والمعارضة، على السواء، دأبت على مدى سنوات، على تطوير آليات حمائية تحول دون تسرب ضحايا الاختفاء القسري إلى «سوق السياسة» التي يتوزعها حفنة من الكبار (الصغار) لا يقيمون وزناً لحقوق المواطنة في تجاذبهم وتنافرهم، وفي حروب احتكار التمثيل، وإذ يخوضون في المناقصات والمزايدات (الوطنية)، وحين يشنون حروبهم الداخلية، وساعة يبرمون صفقات يخلعون عليها وصف المصالحات الوطنية.

كان الأسوأ منتظراً. وإذ جاء، ففي قالب من الفظاظة والفظاعة. ومنذ نشر أولى حلقات الملف، منتصف مايو الماضي، هاجت شياطين التأويل، ترشق «النداء» ومحرريها، دون أن توفر الضحايا،  بأقذع السباب.

منذ الحلقة الأولى فعَّل الجناة (ومَنْ غير الجناة يستفزه بوح الضحية؟!) آلياتهم للنيل من مصداقية الصحيفة والتزام محرريها المهني والأخلاقي. فعلاوة على دعاوى الإساءة لرئيس الدولة، والتشويش على عدالة الحرب في صعدة، وإحياء ملفات الماضي (لكأن المطلوب أن تحيا أسر الضحايا وحدها في الماضي!)، ومحاولة تفكيك الاصطفافات السياسية والجهوية الراهنة، أطلق الآثمون تهمة المناطقية على الصحيفة، في إسقاط يثير من الاشمئزاز أكثر مما يثير من الغضب.

باسم المصالحات المزعومة، والمراحل الانتقالية، والتسامح المفترى عليه، والوحدات الوطنية التي تجُب ما قبلها، أفلت الجناة دوماً من المساءلة والعقاب، وحُكِم على أقارب الضحايا بالإقامة المؤبدة عند تواريخ اختفاء أحبائهم، واحتفظت الثوابت الوطنية والقضايا الكبرى بقوتها الأدائية الرهيبة، عابرة الأزمان والمصالحات والاتفاقات.

ومن هذه الزاوية حصراً، تتبدى الوظيفة المستقبلية لملف «النداء»، بخاصة مع إعلان وقف النار صعدة، والإشارة صراحة في الإتفاق بين الحكومة وجماعة الحوثي، إلى معالجة ملف المفقودين جراء الحرب هناك.

***