قيامة عبدالسلام

في طفولته الباكرة في القرية لم يكن «وضاح» يفتقد أباه! وعندما بلغ ال11 بدأ يحاصر والدته «منيرة» وعمه «درهم» بالسؤال عن الأب الغائب فيزيائياً. ومذَّاك كبر السؤال معه، وخبر بانصرام السنين محنة الحياة في أسرة شخص «مختف قسرياً».

في 14 يوليو 1978 نفذت عناصر أمنية حملات دهم واعتقالات في العاصمة صنعاء. كان «عبدالسلام» الكادر الشاب في الاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي والتطوير، أحد ضحايا الحملات؛ إذ ضُبط في شارع السلام- باب اليمن، في التاسعة والنصف صباحاً. وطبق رواية أحد المصادر فقد اعتقل بسبب تورطه في توزيع منشورات للجبهة الوطنية الديمقراطية، أبرز الفصائل المعارضة لنظام الحكم في شمال اليمن.

في دار البشائر شوهد «عبدالسلام» عشية اليوم نفسه. كان قد تلقى حصة تعذيب دامت 12 ساعة. جيء به إلى إحدى الزنازن والدماء تغطيه. «لم يكن تعذيباً قدر ما هو تمثيل» قال شهود عيان لـ«النداء».

لم يظهر ثانية في أي مكان آخر. كانت تلك آخر مرة شوهد فيها، ما يعني -بلغة القانون- أنه ما زال محتجز الحرية لدى الأمن الوطني، حسبما أفاد «النداء» مصدر قانوني.

قبل أسبوع من الليلة المشؤومة، كانت عروسه «منيرة»، 16 سنة، تضع طفلها الأول. أرسل لها مصاريف لتغطية نفقات «السابع»، وأشعرها بأنه يُفضل أن يسمى الوليد «وضاح»، واعداً بلقياها بعد 40 يوماً!

***

كبر «وضاح» وتزوج، وصار الآن أباً لـ«أصيل»، 3 سنوات، وهو يعمل الآن في وزارة الإدارة المحلية، ويقطن رفقة أسرته الصغيرة بيتاً استأجره في العاصمة. وهناك جلست العروس التي تنتظر رجُلها منذ 29 عاماً، لتروي لـ«النداء» سيرة انتظارات بدأت بُعيد زواجها بشهر.

قالت: «تزوجت في مطلع شوال». تقدم عبدالسلام لخطبتها من أشقائها المتواجدين مثله في العاصمة لغرض الدراسة والعمل. في سبتمبر 1977 نزلوا قرية «الدمنة» في الأعبوس، وعرضوا الأمر على والدها فتقرر الزواج.

أمضى العروسان شهر العسل في القرية، ثم غادر العريس إلى العاصمة لمتابعة الدراسة (كان في السنة الثانية بكلية الشريعة والقانون) ومواصلة العمل. في عيد الأضحى عاد عبدالسلام إلى القرية، وكانت عروسه تحمل طفلهما الأول. مكث أسبوعين، وقبل أن يغادرها مجدداً أفصحت إليه عن مخاوفها: «شاموت بسبب الحمل»، لكن الشاب الضاج حيوية مازحها: لا بتموتي ولا شيء، شارجع ولا بك حاجة». منيرة لم تمت، وشريك حياتها لم يرجع، لكن الخبر السار بقدوم مولودهما البكر بلغه إلى صنعاء. بادر الأب، إلى إرسال مصاريف إلى أسرته لتغطية نفقات المناسبة السعيدة.

***

بعد أسبوع من قدوم «وضاح»، تلقت منيرة النبأ الأليم: أعتُقل عبدالسلام! أومأتْ إلى «وضاح» وقالت لـ«النداء»: «كان عمره 7 أيام عندما اعتقلوا أبوه».

بين المعتقلين كان أخوه درهم، وابن عمه، وآخرون. بعد عام أفرج عن الإثنين، لكن عبدالسلام «ما خرجش، ولا احد شافه. ضاع وهيه»، زفرت العروس التي باتت الآن جدة ترعى حفيدها أصيل.

محكوم على منيرة أن تواصل انتظاراتها. «عادني ساهن (مؤملة) إنه شيرجع»، قالت.

وتفحصت «أصيل»، قبل أن تشرك الزميلة بشرى العنسي في أجواء اللحظة المنتظرة، لحظة قيامة عبدالسلام مجدداً: «تخيلي شيرجع وقد ابنه متزوج ومعه إبن».

ولكن قد يكون ميتاً منذ زمن طويل؟

لا تسلِّم منيرة بهذه الفرضية: «لا جابوا جثة، ولا شفنا جنازة ولا شهادة وفاة، ولا سلَّموا ثيابه أو بطاقته، ولا شي».

كما مئات الزوجات والامهات والآباء والأشقاء والأبناء من أسر المختفين قسرياً، تريد منيرة برهاناً مادياً: «كيف أقتنع بأنه مات؟»، سألت مستنكرة: «لو شفته بعيني ميتاً، كنت شاقول: الحمد لله على كل حال».

ما يزال الأمل مقيماً في فؤادها، تسهر منتظرة دقاته: «وإي حين ما دق الباب، فتحنا».

لم يدق عبدالسلام بابها منذ 29 عاماً. وقد حمَّلت «النداء» رسالة إلى الرئيس علي عبدالله صالح: «وصلِّوا لعند الرئيس بأننا ندور عن الرجَّال... نحن مش مقتنعين بأنه مات».

الوقت على شفرة المقصلة

خلافاً للموت، يصعب التأقلم مع الاختفاء القسري مهما استمرت الحالة في الزمن، لعمق الجرح والبعد العاطفي الذي تخلقه مشكلة إنسان حي وميت، حاضر وغائب. والاختفاء يضع الوقت على شفرة المقصلة ليصبح الغائب الأكبر في منطقة الحدث نفسه (كما يرد في تعريف الاختفاء القسري في كتاب «الإمعان في حقوق الإنسان» تحرير هيثم مناع).

تبدو منيرة أصغر كثيراً من سنها، ما تزال على عهدها: عروساً تنتظر فارس أحلامها، مزحزحة الوقت إلى دائرة الغياب الفيزيائي، كما زوجها.

عندما التقتها «النداء» عصر السبت الماضي لم تبدُ عليها أعراض حالة «الانتزاع النفسي»، الحالة التي تصيب -عادة- المقربين من الضحية.

وطبق «الإمعان في حقوق الانسان»، فإن المقربين من الضحية يعاودهم الإحساس بالذنب والمسؤولية، مع نشوء إحساس بالوحدة والفراغ. وتزورهم نوبات إحباط وانهيار عصبي، واضطرابات جسدية وعاطفية، علاوة على غياب المتعة وفقدان الإحساس بالرغبة.

***

وإذاً، فإن عبدالسلام علي عبدالكريم هايل العبسي، المعتقل في 14 يوليو 1978، ليس في عداد الأموات، دون أن يكون في عداد الأحياء.

ولد عام 1956 في الأعبوس، ودرس الاعدادية هناك، ثم انتقل إلى صنعاء سعياً وراء الرزق. حصل على وظيفة في وزارة المالية، وواصل دراسته الثانوية في مدرسة «جمال عبدالناصر»، ضمن نظام «المنازل». تخرج من الثانوية بتفوق، والتحق بكلية الشريعة والقانون.

كان عصامياً ومثابراً وديناميكياً، طبق شهادات مجايليه. كان في قلب زمنه حاضراً، وقد جذبته الفكرة الاشتراكية، فانخرط في الحزب الديمقراطي الثوري، في سن مبكرة.

وفي مارس 1978، انتقل عبدالسلام الى الاتحاد العام للتعاونيات. سنتذاك استأجر ومجموعة من أصحابه شقة في الصافية الجنوبية.

كانت سنة العواصف والتقلبات الكبرى.

كان الرئيس ابراهيم الحمدي قد أغتيل في الخريف السابق، فتوترت الأوضاع السياسية في البلاد، ونشط معارضو الحكم في شمال اليمن، مستفيدين من الغضب الشعبي لاغتيال الرئيس المحبوب، وحالة «الدوار» التي أصابت حكم الرئيس الجديد أحمد الغشمي، الذي لم يلبث أن اغتيل قبل انقضاء 8 أشهر على كرسي الحكم، إذ أودت به حقيبة مفخخة يحملها مبعوث جنوبي خاص صباح 24 يونيو 1978.

بعد نحو 20 يوماً من اغتيال الغشمي كان مصير الكرسي الرئاسي ما يزال متأرجحاً بين القاضي عبدالكريم العرشي الرئيس المؤقت، والمقدم علي عبدالله صالح، الضابط الصاعد بقوة من داخل القوات المسلحة. وفي الأثناء كان جهاز الأمن الوطني يطوِّر آليات قمع المعارضين وغير المعارضين، في لحظة لاح فيها الحكم عند أجهزته وحماته معرضاً لخطر وجودي!

الثابت أن الخطر الوجودي كان يحدق بالعشرات من الرجال والشباب الحزبيين، وغير الحزبيين. كان درء الخطر عن النظام الموجود يتطلب محو وجود عشرات الشباب الأبرياء.

صباح 14 يوليو 1978 أعتُقل عبدالسلام، ومساء اليوم ذاته اعتُقل عشرات آخرون، بينهم شقيقه الأصغر درهم (المولود في 1958).

شهادة الوفاة كأداة تحسين سمعة

عبر سنوات طوَّرت الحكومة اليمنية آليات وتقنيات للتحايل على عذابات أسر المختفين قسرياً. في حالة عبدالسلام المغيَّب، تتوسل الجهات الرسمية المعنية إغلاق ملفه، كيفما أتفق.

في مذكرة من أمة العليم السوسوة وزيرة حقوق الانسان إلى صادق أمين أبو رأس وزير الإدارة المحلية، بتاريخ 28 نوفمبر 2005، أمُلت الوزيرة موافاتها بأية وثائق قد تفيد في بيان الإجراءت التي تم بناءً عليها اعتبار حالة عبدالسلام من ضمن الوفيات.

ولكن لماذا تحرص الحكومة اليمنية والوزارة المختصة بحقوق الانسان على تصنيف عبدالسلام في عداد الأموات؟

ببساطة: «ليتسنى لنا تقديمها للفريق العامل المعني بالاختفاء القسري (بمكتب المفوضية السامية لحقوق الانسان بجنيف) ما سيسهم بشكل كبير في إيقاف النظر في هذه الحالات من قبل الفريق المعني (...) وتحسين ملف بلادنا في مجالات حقوق الإنسان»، كذلك ختمت الوزيرة أمة العليم السوسوة خطابها إلى زميلها وزير الإدارة المحلية!

الجريمة مستمرة، كما نرى، والمطلوب شهادة وفاة لرجل ليس في عداد الأموات، لغرض تحسين سمعة اليمن دولياً.

«طلبوا منا في الإدارة المحلية نطلِّع له شهادة وفاة على شان الراتب، لكن إحنا ما رضيناش»، قالت منيرة. ثم احتدت: «يقنعونا أولاً (إن كان) حي أو ميت».

لا ترى الغالبية الساحقة من أقارب المختفين قسرياً في وزارة حقوق الانسان، نصيراً لها، بل تم تعيين الوزارة كعدو مباشر يحول دون استرداد الضحايا لحقوقهم. «الوزارة صارت الغريم»، قرَّر -باطمئنان- درهم علي عبدالكريم، الشقيق الذي اعتُقل مساء اليوم نفسه وأفرج عنه بعد عام.

تحولت وزارة حقوق الإنسان إلى حفار قبور.

وبدلاً من متابعة أسر الضحايا، تجهد الوزارة من أجل ترتيب وثائق رسمية تفيد بتسوية الحالات الواردة في قوائم المفوضية. لكن الإنسان المحتجز أو أقاربه، فإنه مجرد «مذكور» في مراسلات الجهات الحكومية والمتخصصة برعاية حقوق الإنسان.

الإبن الذي صار أباً!

«بعد أسبوع من ولادتي اعتقلوا والدي»، قال وضاح عبدالسلام. «ما زلنا ننتظر عودته»، أضاف رب الأسرة الصغيرة المكونة من والدة صابرة، وزوجة، وابن (أصيل) إنه الحفيد الذي يظهر في هذه الصفحة حفياً بصورة جده.

بقي من «عبدالسلام» عشرات الوثائق الخاصة بملفه، وصورة فوتوغرافية واحدة مقاس 4*6، إنها الصورة الوحيدة التي أفلتت من سطوة الأمن والمخبرين والمتواطئين والمتكتمين على الجريمة.

في طفولته لم يكن وضاح يفتقد أباه. ومع الوقت بدأ يثير التساؤلات عن الأب الغائب فيزيائياً، الأب الذي فقد كل وسيلة للتواصل معه. والآن فإن وحيد أبويه يجهد من أجل وضع حد لجريمة مستمرة عمرها من عمره.

تزوج وضاح قبل أربع سنوات، ورزق بطفل أسماه «أصيل». وطبق منيرة فإن الحفيد العنيد ورث سمات جده: الشاب الذي ما تزال تنتظره. وفي منزل الأسرة المتواضع في شارع هايل، بدا أصيل شكساً وعنيداً واستقلالياً بامتياز. وإلى ذلك فقد اختصت الطفل ذا الثلاث السنوات بوظيفة فتح باب المنزل أمام الزائرين، لكأنه، كما جدته، ينتظر قدوم الجد الطيب في أية لحظة. وقد بدا مرة، خلال زيارة «النداء» للمنزل، ساخطاً لأن شخصاً آخر في الأسرة سبقه إلى فتح الباب لإحدى الزائرات.

خبُر وضاح جيداً محنة العيش في أسرة «مختف قسرياً». ويتذكر الآن كيف اجتاح الفزع والدته عندما قرر الانتقال إلى صنعاء. فالعاصمة، في نظر منيرة، ليست عاصماً من الفقد، وقد حاولت عبثاً منعه من السفر إلى «موقع الجريمة». يستعيد الهلع الذي ارتسم في عيني أمه مؤخراً، عندما أصيب بوعكة صحية، وأسعف إلى المستشفى، تاركاً أصيل في حضنها.

بين يدي وضاح عشرات الوثائق، بعضها يعود إلى ما قبل ولادته بسنوات، وبعضها إلى أيام ما بعد النكبة. أحدها تحمل توجيها من أحد المسؤولين في الإدارة المحلية نهاية السبعينيات تقول: «طالما والمذكور في السجن، يُصرف له نصف راتب».

وفي مذكرة أخرى مطلع التسعينات وجه محمد سعيد عبدالله، وزير الادارة المحلية، مذكرة إلى وزير الخدمة المدنية يفيده بأن «عبدالسلام علي عبدالكريم لا يوجد ما يثبت وفاته نظراً لاعتقاله سياسياً عام 1978 وعدم ظهوره حتى الآن»، وبالتالي «يُرجى عدم إحالته على التقاعد حتى إشعار آخر».

إلى جانب وضاح يقف العم درهم بقوة ضد إغلاق ملف أخيه الذي يكبره بعامين. وقد قاتل درهم بضراوة لتعرية دسائس وألاعيب البيروقراطية الرديئة في اليمن.

في مطلع 1992 حرر درهم مذكرة إلى وزير الإدارة المحلية توضح له بأن «أخي عبدالسلام علي عبدالكريم لا ينطبق عليه قانون التقاعد» لأنه لم يبلغ بعد أحد الأجلين: ليس متوفى، ولا بلغ سن التقاعد.

حينها كان درهم قد بلغ 34 عاماً، وكان عبدالسلام، الغائب فيزيائياً، في ال36. لكن منيرة ما تزال الآن، وفي كل أوان، تلك الشابة القروية الصغيرة التي تنتظر كل عشية قرعات عريسها على «باب الأمل»، شريكها الذي يدفع منذ 3 عقود ثمن استقرار نظام حكم، وثمن تحسين سمعته خارجياً.

نوح الطيور

طبق روايات أفراد أسرة عبدالسلام فإن «منيرة» تتابع أسبوعياً البرنامج التلفزيوني «نوح الطيور» وهو برنامج مخصص للجمع بين المفقودين، أو بين المغتربين في الخارج و أسرهم.

تشاهد منيرة «نوح الطيور» أسبوعياً، وتجهش باكية.

- بمشاركة بشرى العنسي