هذي نداء للناس - كلمة أولى

استغرق البحث عن اسم لهذا الاصدار الجديد عديد اسابيع قبل أن يتناهى «نداء» من وراء جبل أشم وضاحية شموس!

اختيار اسم لمطبوعة جديدة أبعد من أن يكون رحلة سياحية ترفيهية، بل رحلة شاقة مليئة بالغصص والحسرات بعدما حجزت كل الأسماء المرغوبة في قائمة وزارة الاعلام للإصدارات المرخصة لصحف تصدر بانتظام في مستويات متفاوتة وأُُخر لا تصدر؛ لأسباب شتى، ليس أمرُّها غياب أصحابها في بحار الخلود أو قيعان النسيان، وثالثة تصدر فقط في المناسبات الدينية والوطنية، وأحياناً الاجتماعية.

ها إن “النداء” قد استُل من مصيدة التكاثر العشوائي، بعد مشاورات داخل دائرة ضيقة من الزملاء والزميلات الصحفيين، ومن صحاب يعدون أنفسهم من صنف ذوي الذائقة السمعية الرفيعة. لكن ما ان تقدمت بطلب ترخيص كتابي إلى وزير الإعلام، وأشَّر هذا عليه بخط يده موافقاً ومشفقاً ومشجعاً في آن، تماماً كما جميع المسؤولين والموظفين في الوزارة، حتى ظهر أن الاسم مثار انقسامات واحتجاجات بين الزملاء والاصدقاء، وبخاصة اولئك الذي رحبوا بفكرة الاصدار وشجعوا وصبروا وصابروا من دون أن يرهقهم انتظار ميلاد هذا العدد فيلتفتون عن صاحبه.

وجدت من يعترض باحتداد ضيف مشارك في الاتجاه المعاكس، واكثر من ذلك من لا يخفي اشمئزازه للاسم لمجرد أنه يقرأه محملاً بدلالات تطرف وأصولية. وكنت أحسب أن «نداء» بلا إضافة، كما في نداء الوطن أو العروبة أو الاسلام أو التقدم، كفيل بتجريده من أية محمولات ايديولوجية. وقد أبلغت هؤلاء، مناكفاً تارة ومغاضباً في اخرى، أن قراري نابع من تأثر عميق بأبرز منشور احتجاجي تم تصديره بهذا الاسم، عُلق على باب الكنيسة في مطلع القرن السادس عشر، كتبه مارتن لوثر، المحتج الأشهر و«اللامنتمي» الذي انشق عن المؤسسة مؤسساً لمذهب جديد يرفض وصاية البابوات ويُسخِّف وساطتهم بين العبد وربه، ما اعتبرته الكنيسة هرطقة، وعدَّه بعض رجال الدين ضرباً من «محمدية» على ما جاء في كتب التاريخ.

والحق أنني صادفت أصدقاء يساريين يستحسنون الاسم، في تجلٍ حنيني، لمجرد أن «النداء» كانت في عهد مضى جريدة الشيوعيين في لبنان. وبالمثل فقد بدا أصدقاء وزملاء إسلاميون أقل توجساً من الصحيفة وخطها؛ لأن “النداء” بات الآن وسط تنامي قوة التيار الاسلامي عنواناً أثيراً لصحف ونشرات وكاسيتات ذوات هوية دينية على امتداد الساحة العربية.

قوبل الاسم إذاً بعاصفة من الاعتراض، بيد أنني تشبثت به بإيعاز من إلهام داخلي، واتكاءً على استمزاج ذوي الذائقة السمعية الرفيعة المزعومين، واولئك المشهود لهم بالذائقة البصرية الراقية، وبخاصة الفنان احمد منصر الخطاط الشهير، وعبدالله المجاهد، الرسام الذي ينثر الحُب حيثما حل، والمخرج طارق السامعي، وثلاثتهم أصدقاء عزيزون، والأخيران عددت نفسي ذا حظ حليف إذ أتيح لي العمل رفقتهما في «الوحدوي» و«الأسبوع».

على أن الاسم محض لافتة لمكان، والأمكنة بناسها، مثلما أن الصحف بمضامينها وبسياساتها التحريرية وبأساليبها التعبيرية، وقبل ذلك كله برأسمالها الحقيقي: المصداقية والنزاهة. ولئن تقاصر الاسم عن أن يُحدث وقعاً جميلاً، تعالى المضمون لتزيينه ولجعله يتغلغل في وجدان القارئ كاسباً ثقته وصداقته.

والصحافة المطبوعة في بلادنا إما مملوكة للحكومة أو للاحزاب أو للأفراد (إذ لا مؤسسات بعد تملك صحفاً، عسى أن يكون ذلك قريباً)، والأصل -بصرف النظر عن هوية المالك- أن الصحافة ملك المجتمع في مغزاها، وإلا ما شددت الدساتير على الإعلاء من شان حرية الرأي والتعبير، وإلا ما زعم ناشرو الصحف أنهم يتوسلون خدمة المجتمع ورفاهيته. لكننا إذا نتلفت حولنا نلحظ من أسف أن الصحافة الحكومية في بلدنا تنحسر وظيفتها على الرغم من أنها تزخر بعشرات الكفاءات المهنية، إلى مجرد منابر «تنمق الأباطيل وتختلق الاكاذيب» كما كان يفعل شعراء البلاط ومثقفوه في عصور الانحطاط. وتتحول الصحف الحزبية، إلا ما رحم ربي، من منابر للرأي الآخر إلى بوق لتمجيد قائد الحزب أو مسدس هو وحده من يقرِّر هوية الطريدة ويقدِّر متى يضغط بإصبعه على الزناد.

بوق ومسدس، وصفان يُخلعان على الصحافة، يحبذ قادة احزاب المعارضة استدعاءهما كلما هبطوا مظلياً في مقرات صحفهم ليلقنوا العاملين فيها، اذا هم نسوا او أعرضوا عن ذكرهم، درساً جديداً في الالتزام الحزبي.

والمفترض أن الصحافة الأهلية أقل حمولة، وبالتالي أرشق حركة في تعاطيها مع الواقع وما يفرزه من ظواهر مستجدة. ونحن، زملائي وأنا، ليس في حوزتنا برنامج انتخابي متكامل نقدمه في مستهل هذا العدد كيما نكسب أصوات القراء، أو لنمثل على المجتمع الدولي كما في انتخاباتنا قبلوية الاحكام! بل رصيد محدود من الخبرة ومخزون بلا حدود من الحماسة وأقلام لما يخاصمها التواضع بعد، وحظ قليل من الخيال جرَّأنا على قطع خطوة في مسير أميال، ومن بعد ذلك طموح لا يُحد في أن يكون نداؤنا للناس رصيناً يحترم عقولهم، لا نخبوياً يتعالى على همومهم ولا شعبوياً يتملق عواطفهم ويدغدغ غرائزهم، لا طنطنة هو ولاتأتأة، لكنما نداء جديد، على ما يقول الليبراليون -إن كان لا مناص من محمولات- نداءٌ للناس ومن أجلهم.