كلمة ثالثة

يلازمني منذ أسبوع الصحفي الأميركي الشهير بوب ودورد، وذكرى التقائه بمجموعة من الصحفيين من دول عربية ودول من شرق أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، قبل 14 سنة بالكمال (أكتوبر 2008).

في ذلك اللقاء الشائق الذي امتد حوالي ساعتين، قال جملتين لم أنسهما قط؛ الأولى أن بوسع الصحفي/الصحفية الشغل في أقسى الظروف، والتكيف معها، محافظًا قدر المستطاع على قواعد مهنيته، وكان يرد على مذيع في راديو محلي من دولة إفريقية (غينيا). والجملة الثانية كانت "خبرية" وإن لم نستوعبها تمامًا وقتها، فـ"نحن الصحفيين -قال بوب ودورد- في الصحافة المقروءة، ديناصورات القرن الـ21"!

شخصيًا، تعاملت مع الجملة باعتبارها صيغة مبالغة على الطريقة الهوليوودية، تتجاوز حدود مشكلة الصحافة المطبوعة. صحيح أن الصحف الكبرى في أوروبا وأمريكا، كانت قد شرعت بخفض طواقمها بحدود الربع، وبعضها بحدود النصف، لكنها باقية جراء تكيفها المستمر مع مستلزمات القارئ الجديد، وهو قارئ فتي عجول لديه في موبايله ما يغنيه عن "تأملات" الشيوخ في صحفهم الآيلة للدفن!

في لقاء آخر، قبل نحو أسبوعين، في جامعة نورث كارولينا، فاجأني أستاذ في قسم الصحافة، وهو يسألني في حديث جانبي، عن وسائل الوقاية حيال تحديات التوزيع التي تواجهها "النداء"، في ظل تنامي وسائل الإعلام الجديد؟ ابتسمت وأنا أرد عليه سريعًا: مشكلة النداء، والصحافة في اليمن عمومًا، هي عدم القدرة على الوصول إلى القراء أساسًا، لا دخول وسائل الإعلام الجديد كمنافس لا يرحم!

كنا في 2008.

عدت بعدما وقعت عرضًا متاحًا من "نيويورك تايمز"، يسمح بنشر مختارات أسبوعية لقراء "النداء"، طاردًا من ذهني ما يؤرق الأساتذة في العالم الجديد، صحفيين وبروفسورات!

بعد نصف عام كانت "النداء" توقف للمرة الثالثة خلال 4 سنوات، وهذه المرة بتهمة "التحريض على العصيان المسلح" و"التآمر على الوحدة اليمنية". وبعد أقل من 3 أعوام (مطلع يونيو 2011) سيطر مسلحون على محيط مقر "النداء"، وأطلقوا سيلًا من التهديدات حيال "النداء"، وبخاصة محررها الذي يتطاول على الشرعية! ثم بعد عدة أشهر (يناير 2012) اقتحموا المقر، ونهبوا ما فيه، وتم تسجيل بلاغ في قسم الشرطة، وكانت تلك نهاية الإصدار الورقي، وصرنا في عداد "الديناصورات"، ولكن بتدخل "فوقي" لا طبق قوانين الزمن!

خطر لي كل ذلك وأنا أفكر بما سأكتبه لـ"النداء" بعد 11 سنة ونصف السنة من الغياب.

لقد تحقق نذير بوب ودورد للصحافة المقروءة في اليمن، وإن كان الدور الأساس لمليشيا الفوضى الخلاقة، وصار توزيع صحيفة ورقية حديث خرافة بعد 2014، وانصرف القراء في اليمن قسرًا، لا اختيارًا، إلى "فيسبوك" و"تويتر"، والأكيد أن عودة الصحف إلى ما كانت عليه في 2011، أضغاث أحلام.

لقد توقفت "النداء" في نهاية مايو 2011.

بعد عام، قيل إن الرئاسة (هادي ومساعديه) ستحل مشكلة الصحف المتضررة، وهي على الأرجح عملت حلولًا لبعض ملاك الصحف مقابل الالتحاق بها. ومعلوم أن مساعدي الرئيس هادي استطاعوا جلب الكثير من الصحفيين من "بلاط صاحبة الجلالة" إلى "بلاط صاحب الفخامة". وفي الأثناء واصلت نقابة الصحفيين دورها الباهت، منغمسة في صناعة الإجماع في المرحلة الانتقالية، بالشراكة مع منتهكي حرية الصحافة.

ثم كانت الحرب!

في "النداء" تسرب اليأس أحيانًا إلى محررها وكافة الصحفيين والعاملين فيها، وقد تحمست بقوة لانصراف الزميلين حمدي الحسامي وهلال الجمرة، لاستئناف دراستهما في الهند والمغرب، ولاحقًا انغمس العزيز بشير السيد في التخطيط للموقع، لكن على رمال متحركة، قبل أن يصاب المشروع بضربة عنيفة جراء وفاة مفاجئة للزميل بشير. وتلاحقت الخسارات وصولًا إلى فهمي السقاف الذي أودى به وبأفراد من أسرته الكريمة فيروس كورونا.

من المحزن عدم القدرة على العودة، سنة تلو سنة. وزاد من تعقيد الأمور أن الصحفي/ الصحفية في اليمن لم يعد يواجه مخاطر سلطة وأدواتها القمعية، بل صار عرضة لقمع رجال عصابات يرتدون الزي النظامي، في العاصمة التاريخية والعاصمة المؤقتة والعاصمة الثقافية، ولم يعد هناك مكان آمن يأوي إليه الصحفيون، وما من حماية مكفولة إلا بالقبول بعروض أمراء الحرب الذين يتوزعون البلاد، ويتنمرون على العباد، فيما عواصم الإقليم تتكفل برعايتهم!

زاد الأمر تعقيدًا بانصرام السنوات، لكن "النداء" ظلت تطرق الأسماع بشكل فاجأني مرارًا. فهي حاضرة، وبقوة، لدى قارئيها، وهي ويا للعجب محل انتظار باعتبارها المختلف!

لست أريد أن أطيل. لكن واجهتني عديد أسئلة قبل أن أشرع في الكتابة، بينها ما قواعد السلوك (المبادئ) التي ستحكم الإصدار الجديد، وقد رجعت إلى ميثاق الصحيفة المقر في أغسطس 2006، ووجدته ما يزال صالحًا للاهتداء به. وبينها كيف تبدأ وأنت في أضعف حالاتك، كما وصحبك الأولون تفرقت بهم السبل، وأعزهم مات، وكان العزم هو الذي تكفل بالجواب أن الحاجة قائمة، والناس وحدهم يقررون مستقبل وسيلة إعلامية كانت أساسًا ملكهم منذ عددها الأول في 13 أكتوبر 2004.

اقرأ أيضاً:

هذي نداء للناس – كلمة أولى

كلمة ثانية (افتتاحية العدد الثاني)