في انتظار أول تقرير مصير جنوبي: -3 التحالف بين أبناء الريف والسلاح ركيزة الخطاب الوحدوي (الأخيرة)

لعب الخطاب الوحدوي دور العامل الحاسم في إدارة الصراعات الجنوبية -الجنوبية قبل الاستقلال وبعده. وقد تأسست وحدة مايو 90 على إثر معادٍ لـ«الآخر» وخالٍ من الحقوق.
يذكر حسن باعوم -في حوار صحفي أُجري معه العام الماضي- أنه شارك في إضرابات منتصف القرن التي أدت إلى إفشال الانتخابات التشريعية في 1955 و1959. كان شاباً غير معروف حينها، يعمل تحت خطاب سياسي (شاب هو الآخر) يدعو إلى الوحدة مع الشمال بصرف النظر عن النظام القائم فيه. وقد ذهب هذا الخطاب الوحدوي بباعوم ورفاقه (المنخرطين في الجبهة القومية) إلى الكفاح المسلح والانتصار على قوى الخطاب «الانفصالي» المنادي بدولة مستقلة في الجنوب العربي. وفيما واصل هذا الخطاب اندفاعه بالجنوب شمالاً، سار باعوم في ظلاله عابراً الجبهة القومية إلى الحزب الاشتراكي ومقترباً، خطوة إثر أخرى، من لحظة اختبار ايديولوجية الوحدة على واقع بين يومين: 22 مايو 90 و7 يوليو 94.
الآن، يسير باعوم في العقد السابع من العمر مثقلاً بأمراض الطاعنين في السن، ويقضي وقته كمعتقل سياسي في عاصمة اليمن الموحد على خلفية أنشطته في احتجاجات الجنوب ضد الوحدة القائمة. لقد وجد القيادي الاشتراكي نفسه، بعد قرابة نصف قرن، مناهضاً لوحدة حرب 94. ولن تبخل اللحظة السياسية الحرجة، التي يمر بها البلد، عن إضعاف الموقف الأخلاقي لـ«الوحدة» عبر تقديم صورة مكثفة للوضع الذي أوصل الخطاب إبنه باعوم إليه. إن حالة هذا الرجل تقدم مثالاً حياً ومؤثراً على قصة الجنوب المروعة مع الوحدة، والتحول المفصلي في الموقف الجنوبي من يومها التالي.
هذا التحول يعبِّر عن نفسه على أكثر من مستوى شعبي ونخبوي. ويلقي دائرة ضوء على وصول الجنوب إلى مفترق طرق مع الخطاب الوحدوي. فإذا كانت اضرابات منتصف القرن قد وظفت غالباً لصالح خطاب سياسي يطالب بتقرير مصير الجنوب من أجل دخول الوحدة مع الشمال، فإن الحركة الاحتجاجية الراهنة تنطلق ضد هذا الهدف تحديداً: إنها تقترب من المطالبة بتقرير مصير الجنوب عبر إخراجه من الوحدة مع الشمال.
مرجعية وشرعية الوحدة جنوبيتان
مؤخراً، شهدت صورة الوحدة في الذهنية الجنوبية تحولاً كبيراً لم تشهده من قبل. لقد التزمت الحركة الاحتجاجية، حتى وقت متأخر من العام الماضي، بخطاب واضح في تمسكه بوحدة 22 مايو 95 باعتبارها «وحدة التراضي والشراكة» مقابل رفضه لوحدة حرب 94.
غير أن «الاتيكيت» الجنوبي في التعامل مع الوحدة لم يستمر، حيث بات ذكر كلمة «وحدة» يثير حساسية ملتهبة لدى أغلب المحتجين إن لم يكن الشارع الجنوبي عموماً.
لا يتحدث عضو المجلس الأعلى لتنسيق جمعيات المتقاعدين العميد علي محمد السعدي عن موقف شخصي تجاه الوحدة مخالف لما يقوله، مثلاً، رئيس المجلس العميد ناصر النوبة أو المعطري أو الشنفره. في حوار أجراه معه الزميل سامي غالب ونشرته «النداء» يوم 27 فبراير الماضي، يقول السعدي إن المسألة لم تعد تتعلق بإزالة آثار حرب 94،لأن «الأمور استفحلت وأدت إلى وجود مشاعر كراهية عميقة لما يسمى وحدة».
ومع أن الوحدة ما تزال تحظى بمساندة العديد من الشخصيات الجنوبية التي تتمتع بثقل واحترام كبيرين، إلا أن أياً من هؤلاء لا ينكرون التراجع الحاد في شعبية «الوحدة» داخل الجنوب لصالح الخطاب الانفصالي.
استمعوا إلى ما تقوله بعض هذه الشخصيات المتمسكة بالوحدة مثل فيصل بن شملان أو علي صالح عباد (مقبل) أو ياسين سعيد نعمان. في حوار أجراه معه الزميل راجح بادي ونشرته «الصحوة» يوم 17 من الشهر الجاري، يقول بن شملان «أنا من الذين لا يقولون بالانفصال، لكن الذين يريدون الانفصال لديهم مبرر ومبررهم واضح». ويضيف: «الحقيقة أن الدولة والنظام يمارس الانفصال الحقيقي على الآخرين، بمعنى أنه فصل نفسه عن مشاكلهم وعن قضاياهم، فوصل بهم الأمر إلى أن يطالبوا بالإنفصال».
ليس سهلاً التفكير، مجرد التفكير، بانفصال الجنوب عن الشمال. من منظور شخصي، هذه كارثة على مجتمعين متشابكين تماماً. لكن الجنوبيين لا يمتلكون فقط الحق في تقرير مصيرهم، وإنما أيضاً الحق في القذف بالخطاب الوحدوي إلى البحر، طالما أن مرجعية وشرعية الوحدة تعودان إليهم. لقد نذر نظام الاستقلال امكانيات ومستقبل الجنوب للوحدة وصراعاتها. وبالتالي، فمن حق الجنوبيين على الأقل أن يحددوا موقفهم في هذه التجربة المضنية.
الخطاب الوحدوي في 6 محطات
قبل الاستقلال، شهد الجنوب صراعات شديدة بين القوى السياسية والعمالية الناشئة. عناوين تلك الصراعات كانت تندرج غالباً تحت خطابين: وحدوي وانفصالي. لكن الخطاب الوحدوي ظل سيد الموقف السياسي والشعبي في تاريخ الجنوب. فهو لعب دور العامل الحاسم في إدارة الصراعات الجنوبية- الجنوبية قبل الاستقلال وبعده، وكان بمثابة الحليف المؤثر في ترجيح كفة طرف على آخر.
بشكل أولي وسريع، يمكن الحديث عن 6 محطات رئيسية مر بها الخطاب الوحدوي الذي شق طريقة بمساندة حليفين أساسيين: السلاح وأبناء الريف والقبائل.
المحطة الأولى في 1951، حين تأسس حزب رابطة أبناء الجنوب العربي تحت هدف رئيسي يتمثل في إقامة دولة مستقلة وموحدة تضم مختلف مناطق جنوب الجزيرة العربية بما فيها مسقط وعمان. وقد لجأت الرابطة إلى تبني هذا الخطاب الوحدوي لمواجهة شعار «عدن للعدنيين» الذي رفعته «الجمعية العدنية» (تأسست عام 1949). وبسببه، حظيت الرابطة بتأييد داخلي وخارجي (مصر والسعودية)، وكان لها «نوع من الانتشار والشمول بين أبناء الجنوب الريفيين منهم بوجه خاص»، وفقاً للباحث العراقي علي الصراف (اليمن الجنوبي: الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة).
أما المحطة الثانية فيمكن إعادتها إلى 1955 حين انشق الجناح اليساري الشاب غالباً في حزب الرابطة وأسس مع آخرين الجبهة الوطنية المتحدة التي وسعت من رقعة الخطاب الوحدوي على الجغرافيا عبر مطالبتها بالوحدة مع الشمال بصرف النظر عن النظام القائم فيه (من هذه الجبهة، طلعت على الأرجح الدعوة الوحدوية المسلحة إلى إقامة الوحدة ولو باسقاط «النظامين الرجعيين» في الشمال وعمان، وهو ما تبنته لاحقاً وطورته الجبهة القومية ثم الحزب الاشتراكي).
لقد ساهم العنصر الريفي بشكل أكبر، في تكوين الجبهة. ومكنها ذلك، مع الخطاب الوحدوي الأوسع، من بسط حضورها وتأثيرها، سيما بعد قيام النقابات. وفي المقابل، تراجعت شعبية الرابطة التي وجدت نفسها في الطرف الانفصالي من معادلة المواجهة مع خطاب وحدوي أشمل رفعته الجبهة والنقابات.
في السبعينيات، انتقل الخطاب الوحدوي إلى المحطة الثالثة بتدشين الجبهة القومية ثم وريثها الحزب الاشتراكي مرحلة الحرب من أجل الوحدة باتجاه الشمال والشرق ضد «النظامين الرجعيين» في صنعاء ومسقط.
بعد ذلك أتت المرحلة الرابعة في مايو 90. ثم الخامسة في يوليو 94. وابتداءً من العام الماضي، توقف الخطاب الوحدوي في مرحلته السادسة التي لم يغادرها بعد.
تحالف الخطاب الوحدوي مع القبيلة والسلاح
لقد أتت قوة الخطاب الوحدوي من ارتكازه على قاعدة راسخة من أبناء الريف والقبيلة الذين ترتكز قوتهم أساساً على التحالف الوثيق بين كثافتهم العددية والسلاح، وسيلتهم المثلى في التعبير عن أنفسهم، سواء كان تعبيراً عن غضب (كالاحتجاج) أو احتفالاً بفرح (كالأعراس)، إلخ.
منذ أول محطة مر بها الخطاب الوحدوي، بدأت عملية إقصاء عدن المدينة من معادلات الصراع والتأثير. كمثال أول، تأسس حزب الرابطة بمشاركة بعض السلاطين و«برجوازية الريف»، بعد أن «أدركت هاتان الفئتان أنه ليس بإمكانهما منافسة البرجوازية الكبيرة العدنية التي تمكنت من السيطرة على حركة الاستبداد والتجارة بحكم ماتملكه من خبرات في ميادين الإدارة والاتصالات الخارجية». ويضيف الصراف أن هذا انعكس سياسياً على الرابطة بتبنيها شعارات ومواقف مناقضة لما تطرحه الجمعية العدنية.
وكمثال آخر، احتدم الصراع أكثر بين الجبهة القومية وجبهة التحرير مع اقتراب موعد الاستقلال. وبحلول أغسطس 1967، أي قبيل رحيل البريطانيين بقليل، وصل الاقتتال بين الجبهتين إلى ذروته، حيث شهدت عدن حرب شوارع شرسة بينهما. واذا كانت الأمور في عدن قد آلت لصالح الجبهة القومية، فإنما لأنها كانت ترتكز على قاعدة راسخة من أبناء الريف المقاتلين وواقع سيطرتها التامة على سائر مناطق الريف في الجنوب، وصولاً إلى المهرة وسقطرة.
وقبل ذلك بسنوات قليلة، لم تنطلق ثورة 14 أكتوبر 1963 تحت لافتات قماشية من بطن مصنع أونقابة في عدن، بل من جبال ردفان في صورة انتفاضة قبلية مسلحة رداً على قيام البريطانيين بقتل أحد كبار المشائخ الثوار الشيخ راجح بن غالب لبوزة.
وطوال المرحلة الممتدة بين الاستقلال والوحدة، لم تقوَ عدن على تذكر ملمح واحد من الهامش المدني الديمقراطي الذي عرفته في ظل الاستعمار. فكما أشرت في الحلقة(1)، لم تنهض مظاهرة واحدة أو إضراب واحد يعبر عن ارادة الناس ويترك أثراً على مسار إرادة نظام الحكم. لم يحظَ مواطنو (ج.ي. د ش) بمثل ما حظي به سكان عدن البريطانية من قبيل تغيير قوانين سارية وإفشال انتخابات تشريعية، عبر الاضرابات. لم يقدم لهم نظام الاستقلال الشمولي حقهم في التعبير عن إرادتهم المستقلة، عن استقلالهم الفردي.
بديهي أن استقلال وحرية أي بلد لا يتحققان دون حصول أبنائه على الاستقلال والحرية الفرديين، وأن السيادة الوطنية لا تنهض على أكتاف «مواطنين» مستعبدين. وعليه، يمكن القول إن الاستقلال كواقع تنفس تحت سماء الجنوب قبل رحيل البريطانيين أكثر مما فعل بعدهم. ويمكن القول أيضاً إن تقرير مصير الجنوب لم يحدث حتى الآن، طالما أن «استقلال» الستينيات لم يفض إلى  حياة كريمة ومصير جنوبي أفضل.
وحدة مايو 90 ضد الحقوق أيضاً
انتقال الاحتجاجات من حصر هجومها ضد وحدة حرب 94 فقط إلى مهاجمة الوحدة اجمالاً أمر منطقي. فهي بطبيعتها كحركة مطلبية حقوقية لا تستطيع التعبير عن نفسها دون الاصطدام بجدار وحدة 90 التي تأسست على خطاب اقصائي يخلو تماماً من حقوق الأفراد.
منذ أول اتفاقية للوحدة وقع عليها نظاما الجنوب والشمال في القاهرة 1972، غابت «المواطنة» والحقوق وحضرت الحرب والنزعة المعادية للآخر. في اتفاقية الكويت 1979، مثلاً، لا تأتي ضرورة إقامة الوحدة إلا من أجل أهداف على غرار إنهاء شبح الحرب بين «الشطرين». ومع هذا فإن إنهاء الحرب بين «الأشقاء» لا تأتي، في الاتفاقية، من أجل السلام، وإنما استعداداً للحرب ضد الآخر المتمثل في «العدو الصهيوني» أو «التحالف الاميركي الصهيوني»؛ إلخ.. إن اقصاء الجنوبيين من التمثيل السياسي والوظيفي، بعد حرب94، يستند، في جانب كبير منه، إلى الطبيعة الاقصائية للخطاب الوحدوي منذ إنطلاقاته الأولى.
الوحدة الاندماجية
لابد أن عديدين سمعوا بهذه الحكاية: قبيل اعلان الوحدة في 22 مايو 90، اقترح الرئيس الشمالي علي عبدالله صالح على نظيره الجنوبي علي سالم البيض الدخول في وحدة فيدرالية كخطوة أولى، لكن الأخير أصر على الاندماج. ولو لم تكن هذه الحكاية مؤكدة من عدة أطراف بل وشائعة، لوجدت شخصياً ما يدعم صحتها.
ففي الواقع، كانت الوحدة الاندماجية إحدى أبرز سمات نظام الاستقلال، بل إنها رافقته منذ تشكل نواته الأولى (من الخطاب الوحدوي المسلح للجبهة للوطنية المتحدة) منتصف الخمسينيات، مروراً بمرحلة الكفاح المسلح منتصف الستينيات.
 تعود أول خطوة وحدة اندماجية إلى مارس 1956، حين وقفت الجبهة الوطنية المتحدة وراء تأسيس «مؤتمر نقابات عمال عدن» بدمج 25 نقابة معاً. وسيستمر الخطاب الوحدوي الاندماجي، منذ ذلك الحين، في التعبير عن نفسه على مختلف مستويات الحياة الجنوبية.
ففي أغسطس 1963، تشكلت الجبهة القومية من اندماج 7 تنظيمات سرية أعلنت تبنيها خيار الكفاح المسلح.
وقد تواصلت عمليات دمج القوى السياسية بعد الاستقلال، باتجاه فرض سياسة حكم الحزب الواحد وثقافة مجتمع اللون الوحد. ففي 1975، تأسس حزب الوحدة الشعبية بدمج 5 فصائل. وفي أكتوبر 1978، تأسس الحزب الاشتراكي بدمج 3 منظمات.
وراء هذا الاندفاع الشديد نحو الوحدة الاندماجية، جملة أسباب. أحدها- على الأرجح- النزعة المضادة للوحدة الفيدرالية. ولهذه النزعة- على الأرجح أيضاً- سببان: الأول رفض للفيدرالية لما تتضمنه من حفظ للإختلاف والتعدد، والآخر رفض لها لاعتبارها من قيم الآخر- البريطاني.
ويمكن توضيح خلفية النزعة المضادة للفيدرالية بالاشارة إلى مساعي الانجليز في إقامة وحدة فيدرالية في الجنوب تحت إسم «إتحاد إمارات الجنوب العربي». فحسب كتاب «النجم الاحمر فوق اليمن» ل أحمدعطية المصري، كانت بريطانيا قد بدأت التمهيد لهذا الاتحاد أوائل الخمسينيات بعرض الفكرة على الحكام المحليين «الذين قابلوها بفتور في بادئ الأمر، كما عارضتها العناصر الوطنية بشدة».
يضيف المصري: «وفي فبراير 1959 أعلن قيام إتحاد إمارات الجنوب العربي وسط موجة من السخط الشديد من قبل القوى الوطنية والدول العربية».
إن «موجة السخط الشديد» التي يتحدث عنها المصري لا تقف على ما يبررها كفاية سوى أنها موجة عدائية محضة لقيمة التعدد الآتية من «الآخر- العدو». وبعبارة أولية وموجزة، يمكن القول إن تبني البريطانيين فكرة إقامة إتحاد في الجنوب العربي دفع الجبهة الوطنية المتحدة نحو تبني الدعوة إلى الوحدة مع الشمال وقد شكلت تلك الدعوة نواة الخطاب الوحدوي الذي ستتبناه لاحقاً الجبهة القومية ثم الحزب الاشتراكي.
nabilsobeaMail