في انتظار أول تقرير مصير جنوبي: -2 الاحتجاجات في الزمنين البريطاني و«الوحدوي»

في انتظار أول تقرير مصير جنوبي: -2 الاحتجاجات في الزمنين البريطاني و«الوحدوي» - نبيل سبيع

للجنوب تجربة احتجاجات ممتدة من العام 1919 إلى اليوم. لكن مأساة الجنوبي في أنه لم يجد نفسه فيها إلا محتجاً على تسريحه القسري من العمل.
في 1966و 1967، تصاعدت وتيرة مطالبات قوى الاستقلال الجنوبية بتطبيق قراري الجمعية العمومية للأمم المتحدة، الصادرين في ديسمبر 1963 ونوفمبر 1965، بشأن أوضاع الجنوب العربي تحت الاستعمار البريطاني، وطريقه إلى الاستقلال.
وفي 2006 و2007، طالب لقاء التصالح والتسامح في الضالع، ثم المتقاعدون العسكريون في عدن اصلاح مسار وحدة 90 وفقاً لاتفاقيات قيامها وقراري مجلس الأمن رقم 924 و931 الصادرين إبان حرب 94 بخصوص التزامات المنتصر تجاه الجنوب.
ليست الصدفة وحدها من جعلت الجنوب، اليوم، يرفع مطالبات موازية لتلك التي شهدها قبل 40 عاماً. التشابه الشكلي، في المثالين السابقين، يحيل إلى الكثير من التوازيات بين مسارات أحداث اللحظة الراهنة ولحظة منتصف القرن. وحاجة الجنوب المستمرة، بعد مرور 4 عقود على استقلاله، إلى تدخل هيئة دولية كبرى بحجم الأمم المتحدة في تقرير مصيره تضع إصبعاً على مشكلته الحقيقية. لقد وجد الجنوب نفسه اليوم تحت لافتة إحتجاج قماشية من الخمسينيات.
في 22 مايو 2006، طالب لقاء الضالع (وهو الخطوة الثالثة في مضمار تأسيس جمعيات التصالح والتسامح الناشئة) بفتح الأبواب أمام أبناء المحافظات الجنوبية «فيما يخص القبول والالتحاق بالمعاهد والكليات العسكرية والأمنية والسلك الدبلوماسي والبعثات الدراسية في الخارج»، طبقاً للبيان الصادر عنه.
وقبل أزيد من نصف قرن، شهدت عدن احتجاجات قوية نفذتها قوة سياسية ناشئة حينها ضد قانون إقصائي لا يختلف كثيراً عن الوضع الاقصائي الذي رفضه لقاء الضالع مثلاً. ففي 1955، أعلنت الجبهة الوطنية المتحدة، التي تأسست إثر انشقاق الجناح اليساري والقيادات الشابة في رابطة أبناء الجنوب العربي، مقاطعتها للانتخابات التشريعية عامذاك، احتجاجاً على قانون الجنسية، الذي وضع قيوداً تمييزية ضد الكثير من أبناء الريف والشمال اليمني لمنعهم عن ممارسة حقهم في الانتخابات والترشيح، على عكس «أبناء الجاليات الأجنبية» الذين كان القانون يمنحهم امتيازات، بينها ممارسة هذا الحق. وقد أسفرت المقاطعة عن إفشال انتخابات المجلس التشريعي في ذلك العام.
 
الجنوبي تحت شروط عمل مهينة منذ نصف قرن
 في كتابه «اليمن الجنوبي: الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة»، يعيد علي الصراف تأسيس أول نقابة في الجنوب إلى العام 1953، بينما يؤرخ أحمد عطيه المصري لظهور أولى النقابات بالعام 1952. ويعزو الأخير، في كتابه «النجم الأحمر فوق اليمن: تجربة الثورة في اليمن الديمقراطي»، ضآلة النقابات والنقابيين عامذاك إلى غياب التصنيع في عدن قبل إنشاء مصفاة البترول في 1954، كما إلى «عدم قبول النقابات والجمعيات الأجنبية لانضمام العمال العرب (أبناء الريف والشمال اليمني تحديداً)، بالإضافة إلى العوائق التي كان يقيمها أرباب الأعمال بتجنبهم تشغيل النقابيين العرب». (هل أنطلقت احتجاجات اليوم من وضع بعيد عن ذلك الوضع الاقصائي التمييزي الذي رفضته حركة الاحتجاجات العمالية قبل قرابة نصف قرن؟).
أحمد المصري ينقل عن «سير توم هيكنبوتام» «أحد حكام عدن حتى عام 1956»، قوله «أن الشروط العامة لاستخدام العمال العرب في عدن كانت مشينة، ولم تكن هناك نقابات تجمعهم وكانوا يفتقدون القيادة». (لا تبحثوا كثيراً عن وجه التشابه في هذا بين اللحظتين. فقد دارت جدالات عديدة حول شروط عمل موازية واجهها العائدون الجنوبيون إلى المعسكرات العام الماضي).
 
جمعيات المتقاعدين بموازاة نقابات منتصف القرن
لقد دفع هذا الوضع، بمساعدة عدة عوامل داخلية وخارجية، «الكوادر النشطة من العمال والقيادات الوطنية لأن تفكر في تجميع العمال حول النقابات ثم اتحادات تدافع عن مصالحهم وعن مصلحة اليمن الجنوبي». (في مسار موازٍ تقريباً لنشوء جمعيات المتقاعدين مطلع 2006).
ويذكر المصري أن عدد النقابات المسجلة ذهب في ازدياد حتى وصل عام 1962، إلى 32 نقابة منضوية في إطار «مؤتمر نقابات عمال عدن» الذي تشكل عام 1956 بدمج 25 نقابة معاً. (في مسار غير بعيد عن تشكيل مجلس تنسيق جمعيات المتقاعدين العسكريين والمدنيين مطلع يونيو 2006. وسيصبح المساران أكثر تقارباً حال قيام الهيئة الوطنية العليا لقيادة الحراك الجنوبي التي أعلن عنها ناصر النوبة في يناير الماضي).
منذ تشكيله، خاض المؤتمر العمالي قائمة طويلة من الاضرابات بلغت 84 اضراباً بحلول نهاية 1959 الذي كان قد شهد فشل الانتخابات التشريعية، على غرار انتخابات 1955، جراء برنامج مقاطعة نفذه المؤتمر وتضمن مسلسلاً من الاضرابات.
بعد أن كان سبباً رئيسياً في مقاطعة الجبهة الوطنية المتحدة والحركة العمالية لانتخابات 1955 وإفشالها، وقف قانون الجنسية، الذي يضع على العاملين في عدن من أبناء الشمال قيوداً مالية للتمتع بحق الانتخابات والترشيح، في مقدمة الأسباب التي دعت المؤتمر العمالي إلى مقاطعة انتخابات 1959، وإفشالها أيضاً.
إلى هذا، رفض المؤتمر لعمالي الصلاحيات الواسعة (ليس قياساً إلى صلاحيات الحاكم اليوم) التي يتمتع بها حاكم عدن البريطاني والمتمثلة في حق الفيتو. كما رفض ما وصفه المصري بـ«عادة وجود أعضاء معينين داخل المجلس التشريعي». (وهذه، بالمثل، لم تكن حاضرة وبَجِحَة كما هو حاصل اليوم).
وطبقاً للمصري، فقد واجه المؤتمر «هراوات ورصاص سلطة الاحتلال ومزيد من التعسف والطرد من العمل». وبفضل تصميم العمال، «تحقق لهم الكثير من الحقوق مثل زيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل وضمان الاستقرار وغيرها من المكاسب». (تصاعدت حدة وتيرة الأحداث، خلال الأسبوعين الفائتين، جراء عدم التزام السلطات بما كانت أعلنته عن فرص للتجنيد لأبناء الضالع. هذه مجرد فاصلة بسيطة في سلسلة ممتدة من عدم احترام القرار السياسي لالتزاماته).
عام 1960، خاض المؤتمر العمالي معركة أخرى ضد «قانون العلاقات الانتاجية» الذي يحظر على النقابات ممارسة حق الإضراب. وقد نجحت السلطات البريطانية في فرض إرادتها بهذا الخصوص، بحيث لم يمتد الإضراب العام، الذي نفذه العمال احتجاجاً على القانون، أطول من 24 ساعة.
ووفقاً للصراف، فقد أوقف القادة النقابيون ذلك الاضراب «بعد مقابلتهم للمندوب السامي، وعللوا قرارهم بأن المندوب السامي هدد بتسريح العمال، فيما وعده السلاطين بتقديم العدد الضروري من الأيدي العاملة بدلاً من المسرحين».
ورغم هذا، وجه المؤتمر العمالي في الوقت نفسه (أغسطس 1960) مذكرة إلى الأمم المتحدة تطالب بوصايتها على عدن كخطوة أولى لتقرير المصير، لفشل بريطانيا «في التقيد بميثاق الأمم المتحدة في إدارة المستعمرة». لقد كانت قيادة المؤتمر العمالي متمسكة بالوسائل السلمية في تحقيق المصير.
لم يحصر المؤتمر العمالي المواجهة على المربع الداخلي. فقد نقل الأزمة إلى الصعيد العمالي والسياسي العالمي. «وحصل على تأييد المنظمات العمالية الأخرى ومنها المؤتمر البريطاني للنقابات واتحاد عمال هرصية والاتحاد العالمي للنقابات- تشيكو سلوفاكيا، والتنظيمات العمالية العربية»، وفقاً للمصري.
يستند الجنوبيون إلى تجربة مهمة في النضال السلمي المفعم بقوة التصميم على انتزاع الحقوق، بخلاف الشماليين الذين ما يزال يلزمهم الكثير للإنتقال إلى مربع الاحتجاجات التي لا تنتهي بتبادل الأحضان والتبويس والتقاط الصور التذكارية مع القيادات المحلية والأمنية (احتجاجات اللقاء المشترك في تعز العام الماضي، مثلاً).
لقد سارت الاحتجاجات بخطى واثقة نسبياً حتى الآن. فهي واصلت التقدم رغم تساقط القتلى والجرحى وسطها واشتداد وتيرة الاعتقالات والترويع ومختلف صور القمع.
إن الحركة الاحتجاجية، بأدائها حتى الآن، تتذكر عملياً احتجاجات منتصف القرن التي استمرت رغم القمع، حيث واصل العمال احتجاجاتهم على الاعتقالات والمحاكمات التي طالت أعضاء وقيادات النقابات، إضافة إلى نفي عدد منهم واغلاق صحيفتهم (العمال) في عدن.
 
احتجاجات المسرحين من الاسطول
البريطاني في 1919 و1930
لتجربة الجنوب في الاحتجاج السلمي، جذور مبكرة سبقت إضرابات منتصف الخمسينيات. ففي العامين 1949و 1953، نفذ الفلاحون إضرابات احتجاجية ضد أوضاعهم الرديئة. ويعيد المصري إلى تلك الفترة بداية التحرك العمالي في شكله الجنيني إثر «عودة بعض عمال الجنوب من المهجر واستيائهم من المعاملة التي يلقونها من أصحاب الأعمال الأوروبيين والهنود».
على أن محاولة التفتيش عن الجذور المبكرة لتجربة الحركة الاحتجاجية الجنوبية والتاريخ لبداياتها تظل ناقصة دون العودة إلى العاملين 1919 و1930، حين نفذ البحارة اليمنيون، في «ساوث شيلدز» البريطانية، أكبر اضطرابي أحداث شغب شهدتهما انكلترة خلال القرن العشرين.
كان هؤلاء البحارة قد خاضوا الحرب العالمية الأولى مع البحرية البريطانية. وإثر إنتهاء الحرب، قامت السلطات الانجليزية بتسريح عدد كبير منهم، خارج وظائفهم على أساس لونهم وعرقهم. (هذا لا يبتعد عن المصير الذي واجهه الجنوبيون- الزمرة- إثر مساهمتهم الكبيرة والفعالة في صناعة انتصار 7 يوليو 94 على الحزب الاشتراكي. فبعد انتهاء الحرب واستقرار الأوضاع بالنسبة للرئيس صالح، أخذ الأخير بدءاً من العام 1997 يتخلص من حلفائه في تلك الحرب وعلى رأسهم الجنوبيون الذين تم تهميش قياداتهم بموازة تسريح عشرات الآلاف منهم عبر قوائم التقاعد).
وفي 2 أغسطس 1930، خرج نحو 3000 بحار (قدموا إلى بريطانيا من الجنوب والمناطق الشمالية المحيطة به كتعز) محتجين على قانون «الروتا» الذي حمل معاملة تمييزيه ضدهم، حيث قضى بتسريح الكثير منهم خارج وظائفهم لصالح البريطانيين الأصليين.
وقد خاض هؤلاء المحتجون مواجهات شرسة مع البوليس الانكليزي في نفس المدينة (ساوث شيلدرز) التي شهدت احتجاجات 1919.
لكن، وبخلاف التعنت الذي مارسته حتى الآن السلطات «الوطنية» القائمة تجاه الاحتجاجات المطلبية والسياسية، فقد تمكنت احتجاجات 2 أغسطس 1930، رغم أحداث الشغب الواسعة التي شهدتها، من إسقاط قانون «الروتا». (هل هي مصادفة أن تنطلق الاحتجاجات الجنوبية أو المتصلة بالجنوب، غالباً، وعلى مدى عقود، ضد مشكلة واحدة في أساسها الاقصائي التمييزي، هي تسريحهم من أعمالهم).
 
القانون باعتباره متقاعدْ جنوبيْ
بالرغم من أن الجنوب يستند إلى تجربة مهمة من الحركة الاحتجاجية السلمية، إلا أنه يقف اليوم في مواجهة مشكلتين على الأقل: الأولى تتعلق باحتمال انزلاقها إلى السلاح، والثانية بمواجهتها سلطات لاتستجيب لمطالبات «مواطنيها» السلمية، بحيث ترفض تقديم ما يوازي أقل التنازلات التي أجبرت بريطانيا على تقديمها للمحتجين الجنوبيين سواءً في عدن أو على أراضيها في «ساوث شيلدز».
غير أن القصر الرئاسي في صنعاء ليس بعيداً فقط عن إبداء الاحترام لإرادة «مواطنيه» باسقاط قانون يرفضونه. إنه بعيد أيضاً عن ابداء القليل من الاحترام للقوانين التي وضعها هو (حتى القمعية منها).
منذ البداية التزمت الاحتجاجات الحالية بالقانون خلافاً للسلطات، في مرحلة المشاورات التمهيدية (بدأت مطلع مارس 2007) لانشاء جمعيات المتقاعدين، مثلاً، ملمح بالغ الدلالة.
قبل اعلان ولادة الجمعيات في الضالع وردفان وأبين مثلاً، كان المتقاعدون في عدن قد حاولوا تشكيل كيان لهم وفقاً للأطر القانونية الرسمية.
لقد تقدموا، إلى مكتب وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في عدن، بطلب ترخيص لانشاء الجمعية. إلا أن طلبهم قوبل بالرفض، ما دفعهم إلى عقد اجتماعهم التأسيسي واعلان قيام جمعيتهم تحت الضغوطات. والحال أنهم أظهروا، بتصرفهم المدني هذا، احتراماً عالياً للأطر والقوانين الرسمية المخولة بتنظيم (وليس حظر) العملية الديمقراطية السلمية داخل البلد. فيما تصرفت السلطات على النقيض تماماً برفضها منحهم الترخيص.
وقبل ذاك، كان نفس المكتب الذي رفض منح ترخيص لجمعية متقاعدي عدن قد انتهك قوانين ولوائح البلد، باقدامه على اغلاق جمعية ردفان وحظر نشاطها في عدن يوم 15 يناير 2006، عقب تنظيمها أول لقاءات التصالح والتسامح بين فرقاء 13 يناير 1986.
المواجهة بين الحركة الاحتجاجية الجنوبية الحالية والسلطات قدمت نفسها منذ البداية على أنها بين طرف يحترم القانون وآخر ينتهكه. وعلى الاحتجاجات الاستمرار في مسارها السلمي، حتى وإن واصلت السلطة التعامل مع القانون باعتباره أحد المتقاعدين الجنوبيين.
nabilsobeaMail